نبض البلد -
في شوارع المدينة الهائجة تتداخل ضوضاء الحياة مع أنين الزحام، ويبدو أن السيارات قد قررت التمرد على مصائرها المعدنية لتكوين مجتمعات جديدة، وكأنها تُعيد تمثيل المشهد البشري بمفارقات صارخة.
مجتمعات غريبة تضج بصراع غير متكافئ، فهناك نجد السيارات الفاخرة تترفع في هيبتها على عجلات مترفة، وبالمقابل نرى السيارات المهترئة تُصارع بقايا الطريق في محاولة يائسة للبقاء على قيد الحركة.
سيارات فارهة ممزوجة بالطلاءات اللامعة والأبواق المخملية، تتجسد في صورة البرجوازية الفاسدة والمتعجرفة، تتحرك ببطء يبعث على الثقة، وكأنها تسير تحت ظلال القصور العاجية، تُطلق "زواميرها” وكأنها همسات خلف الأبواب المغلقة، لتُخبر السيارات الأخرى أن الطريق لها وحدها، وأن هذا الإزفلت ليس إلا ممرًا لخدمتها، وأن الثراء حق مكتسب، والبقاء لمن يمتلك المفتاح الذهبي، متجاهلة أصوات الجواعى والحاجة المتعالية خلفها.
أما السيارات المهترئة كسيارة والدي الطيب، فهي حكاية أخرى، سيارات بالكاد تتماسك، وتطلق "زواميرها الباهتة وكأنها أصوات المظلومين الذين يُطلقون صرخاتهم في ساحات الغضب والحرمان والظلم والاظطهاد.
سماع "زواميرها” كسماع أنين ممتد في فضاء يتجاهله الجميع، صرخات استغاثة تكاد تخترق زجاج النوافذ المغلقة للسيارات اللامعة المحشوة بالشقراوات والمؤنثين، ولكن دون جدوى.
هذه السيارات القديمة، مثل الكادحين الفلاحين في الأرض، تعيش على أملٍ هش بأن الغد قد يحمل لها فرصة جديدة، أو على الأقل مطبًا أقل قسوة.
وعندما تصل إلى المطبات، تلك الجور والتسطحات التي تُعبر عن مصاعب الحياة وتعقيداتها، يبدأ المسرح الحقيقي.
فالسيارات الفاخرة تمثل لها المطبات مجرد إزعاج بسيط، ارتجاج في المقاعد الجلدية الناعمة، وأزمة عابرة، كالأزمات التي تواجه الأغنياء حينما يفكرون في استثمارهم القادم أو طراز الساعة التي سيرتدونها.
أما بالنسبة للسيارات المهترئة، فكل مطب هو اختبار وجودي، تُعيد فيه جمع شتاتها المبعثر لتستمر في الطريق، وتُصارع ألا تنفصل أجزاؤها المتعبة عن بعضها البعض، ففي كل مطب تجد نفسها امام خطوة نحو الانهيار، وصراع متكرر مع القد وظلم البشر.
وهنا،،،، وهنا،،، هنا اصدقائي ،،
تظهر المفارقة الساخرة في هذا العالم الميكانيكي المصطنع، فنجد المطبات توحّد الجميع في لحظة اهتزاز، إلا أن هذه الوحدة ليست سوى وهْم معشش في عقولنا، لأن السيارات الفاخرة تُواصل طريقها غير مبالية، بينما تظل السيارات المهترئة حبيسة صراعها الأبدي مع الواقع، والفرق يكمن في الاستجابة، فمن يمتلك الرفاهية يتجاوز المطبات بابتسامة باردة، ومن لا يمتلكها يظل يقاوم حتى النهاية.
كل هذه الصورة الصحفية ما هي إلا تجسيد يوضح لنا حقيقة منظومة العدالة الاجتماعية التي باتت في زماننا هذا تبدو كمسرحية هزلية.
فالسيارات الفارهة تمثل أولئك الذين ولدوا وفي أيديهم مفاتيح الحياة الذهبية، يمضون بلا اكتراث، بينما السيارات المهترئة تجسد واقع أبناء الطبقات الكادحة الذين يصارعون فقط من أجل البقاء، والمطبات والجور في نظر الأثرياء الفاسدين ليست سوى تجسيد لمشاكل حياتهم التافهة، بينما هي بالنسبة لنا المظلومين والمضطهدين فصول متكررة من المعاناة اليومية، وكأن المطبات تُذكرنا بحقيقة الحياة القاسية: الكل يعبرها، لكن ليس الجميع يخرجون منها سالمين.
#خليل_النظامي
#مسافر_بلا_عنوان