نبض البلد - رحلة الوعي: الفرد والمجتمع
في "الماضي يموت غدا"
لهارون صبيحي
رؤية: وداد أبوشنب
على مدار ما يزيد عن مئتي وخمسين صفحة تدور أحداث رواية "الماضي يموت غداً" للروائي والقاصّ هارون الصبيحي برؤية اجتماعية اقتصادية سيكولوجية بلغة مباشرة وسلسة، يعرض فيها أحوال الواقع المعيش في غالبية البلدان العربية.
سأقوم بقراءة النّص الروائي "الماضي يموت غداً" من منظورين مختلفين، الأوّل هو النصوص الموازية وهو جانب لا بدّ من قراءته لتتّضح رؤية المنظور الثاني والمتمثّل في تقنية "تيار الوعي" التي سارت عليها الرواية كما سنرى خلال هذه القراءة.
لكلّ عمل إبداعي عتبات أو نصوص موازية تعَدّ مفاتيح تساعد القارئ على الولوج إلى لبّ الرواية والتماهي مع شخصياتها. ولعلّ أولى العتبات أو المناصات أو النصوص الموازية كما يحلو لكلّ من النقاد أنْ يسميها، أولاها العنوان الذي يبشِّر بالخير الكثير في رواية تحمل الألم الجمعي للمجتمعات الفقيرة، فماضي أيّ شخصية كادحة أو فقيرة كما كان الصبيحي يقدّمها، هو ماضِ أليم مرهق، وموته في العنوان بمثابة بشرى للمتلقي، وللعنوان أيضا صلة وطيدة جدّاً بالخاتمة حيث تعلن ميلاد فجر جديد "أبو مجحم جالس في مضافته مع مجموعة من شيوخ القبائل، والأنظار مسلّطة على القرآن الكريم والإنجيل اللذين وضعا على طاولة في منتصف المضافة/ نهاية المرحلة الأولى..." الرواية ص 248؛ وهذه النهاية قرينة بانتهاء الألم الذي سكن الماضي.. كما جاء في العنوان تماما.
والعتبة الثانية على سبيل الحصر وجود نصوص موازية تتمثل في إدماج نصوص الغير إلى جوار مقاطعَ من النصّ الأصلي، وجاءت في شكلين:
الأوّل: مناص أغنية "تعب المشوار" للفنان "فؤاد غازي" جاءت على لسان صبري السكران، ص57، وقد جاء نصّا كاملا ذا وظيفة تذكيرية.
والشكل الثاني نصّ بعنوان "لا تنافق" جاء على لسان أبي محمود نقلاً عن والده في مقطع استذكاري، وهو مناصّ أو نصٌّ موازٍ ما بين الإيحاء والاقتراض، والذي يتمثّل في قصيدة "لا تصالح" للشاعر "أمل دنقل".
أمّا العتبة الثالثة فهي الإهداء: "إلى ذلك الإنسان الذي لا يراه أحد، ولا يفكر فيه أحد، إلى ذلك الإنسان الذي يعتقدون أنّه لا أحد." الرواية، ص5. وفي فصل عنوانه: "لا أحد" جاء على لسان أبي محمود:
"لا أحد...
في الصباح الباكر دخلت إلى الحديقة وفي يدها كوبٌ من القهوة
جلست على مقعد بجانب شجرة الورد الجوري
دون أن تُكلِّم أحداً. دون أنْ تنظر إلى أحد
شربَت من كوب القهوة
أخرجت من حقيبتها كتاباً وقرأت
بعد نصف ساعة
أغلقت الكتاب وأخرجت قلماً وورقة وكتبت
دون أن تنظر إلى أحد. دون أن تكلِّم أحداً
وضعَت يدها على جبينها
فكرتْ قليلاً
أدخلت أصابعها في حقيبتها
أخرجت جوالها واستمعت إلى أغنية فيروز..
دون أن تنظر إلى أحد.. دون أنْ تكلّم أحداً
بعد دقائق نهضت ومشت من أمامي وغادرت الحديقة
دون أن تكلِّم أحداً.. دون أنْ تنظر إلى أحد..
وكنت أنا الوحيد في الحديقة
أنا الذي.. هو لا أحد." ص60.
كما جاء في ختام فصل "المسرود": "أنا المسرود الذي حان الوقت أْن يخرج من بين السطور والصفحات/ أنا المسرود الذي لا يشعر به أحد/ أنا المسرود الذي يعتقدون أنّه لا أحد../ أنا.." ص-ص 239-244. إنّ لازمة "لا أحد" المتكرِّرة على الأقلّ ثلاث مرّات تشي للقارئ بوعي ما، الإهداء إلى من يعتقدون أنّه لا أحد، والقصيدة عن لا مرئي هو ذاته أبو محمود اللا أحد، والمسرود طرد سارده، المسرود اللا أحد وأبو محمود اللا أحد والمهدى إليه اللا أحد، إنّ هذه الطبقة التي لا تكاد تُرى هي المسرود، وسيأتي يوم تخرج فيه إلى النور لتعيش في مجتمع لا طبقي أو على أقلّ تقدير في مجتمع يعلو فيه صوت العالِم والاقتصادي والمثقف والفنان و... كما جاء على لسان المسرود مستنكرا!!
ومن خلال الشخصيات وتقنيات المناصصة يتجلّى لدينا وعي الكاتب موزّعاّ على وعي الشخصيات، فيحيلنا على قراءة أخرى للرواية كونها رواية "تيار الوعي".
كأيّ مثقّف غير منفصل عن مجتمعه وآفاته يحاول الروائي "هارون الصبيحي" وضع أصابعه على جراح المجتمع عبر شخصيات مختلفة وأحداث متنوِّعة، تنقل الواقع للمتلقي نقلا حقيقيا دون تزيين ودون فرش بوادر الأمل إلاّ بما يوحي به العنوان والخاتمة!! الشيء الذي جعل العمل الروائي يتأرجح بين مذهبين واضحين ومتقاربين وهما: الواقعية الاشتراكية والواقعية النقدية، وذلك بأنْ جعل شيئاً من التفاؤل في العنوان "الماضي يموت غدا"، والفقرة الأخيرة من الرواية والتي سبق أنْ ذكرتُها أعلاه؛ وهذا من مميّزات الواقعية الاشتراكية التي انطلقت من المفاهيم الماركسية والتي بدورها تفلسف الصراع الطبقي وتدعو إلى التفاؤل وعدم اليأس، كما تدلّ عليه شخصية مراد الذي قرّر أنْ يصبح غنيا (الرواية: ص9)، في حين سارت أحداث الرواية كلّها برؤى تشاؤمية كما تمليه الواقعية النقدية، والرواية حافلة بأمثلة عن ذلك، نحو رأي خليل بذواته الثلاث اللائي أنشأهن في بداية الرواية لعرض الرأي والرأي الآخر فيما يخصّ وجود الفقير ووجوب انقراضه!! (انظر الرواية: ص.ص 9-10).
لعلّ أوّل ما يلفت انتباه المتلقّي في هذه الرواية الوعي الذي نجده من منبعين، الأوّل: وعي الراوي وأعني هنا الكاتب "هارون الصبيحي"، والثاني وعي الشخصية، وهنا يتراءى لنا وعي الكاتب مكدّساً في الشخصيات التي تمثِّل جانب الخير، كأنّما البطولة هنا هي بطولة جماعية على غرار نموذج الرواية الحديثة، فنرى أنَّ وعي خليل ومراد وأبي محمود وعماد وحتى الميكانيكي اللقيط باسم، هو الوعي ذاته وأنّ لديهم اللغة ذاتها ممّا يحاصر تقنية البوليفونيا فيخبو وهجها المفترَض، ويتقلّص حضورها المتوقّع كما هو الحال في أيّة رواية.
ومن أبرز التقنيات الظاهرة بكثرة في الرواية تقنية الحوار بشقيه: الداخلي (المونولوج) والخارجي (الحوار الذي يدور بين الشخصيات)، ومن هنا لم يكن لي مفّر من إدراك أنّ "تيار الوعي" كان عنصرا تقنيا قارا هنا، لا سيما دعمه بالحضور الزخم للمونولوجات مباشرة كانت أو غير مباشرة، وحتى المناجاة كانت حاضرة بعشوائية أقلّ من المونولوج، وكان الأبطال يسترسلون فيها للتعبير عمّا يخالج ذواتهم، وكانت بمثابة وقفات تسمح للشخصية بتقديم نفسها للقارئ عبر التداعيات التي كانت تتسرّب منها، ويقول روبرت همفري عن المونولوج إنّه تلك التقنية التي تقدَّم بها نفسية الشخصيات والعمليات النفسية في القصص، دون التكلّم أو دون استدعاء جمهور افتراضي، وغرضه التأثير على البنى الذهنية (انظر: روبرت همفري، تيار الوعي في الرواية الحديثة، ترجمة: محمود الربيعي، ط1، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2015، ص70.) ومثال ذلك مقاطع كثيرة لكلٍّ من خليل ومراد وأبي محمود: خليل ص8، مراد ص8، أبو محمود ص84.
أما المناجاة فتشبه المونولوج من حيث كونها حديثا نفسيا، إلا أنّها تفترض حضور جمهور أو قارئ كما في الصفحة 84 و86 على لسان أبي محمود الذي أخذ يكتب ما يجول بخاطرة كمن يوجّه حديثه لجمهور مفترَض يؤثِّر عليه عاطفيا بالتّماهي مع كلّ فرد متأزّم الحال، وإقصاء الراوي مع حضور الشخصية القويّ.
والخاصية الثالثة من خصائص تيار الوعي الاستذكار أو الاسترجاع، ويمكننا التمثيل عنه في موطنين، الأوّل مع سعاد في فصل معنون باسمها أخذت تقدِّم فيه نفسها للقارئ، ص.ص 76-78، والثاني مع أبي محمود عندما قدّم نفسه أيضا في أحد الفصول ص.ص 79-87.
ورابعا التداعي الحرّ: هذا مصطلح نفسي استفادت منه المناهج النقدية، ويتمثل في إرسال بعض العناصر الخاصة للقارئ بغية تقديم أحوال نفسية الشخصية للمتلقي، وهو تقنية كثيرة الورود في الرواية وجاءت خلال أغلب الشخصيات التي تسترسل في حديثها فتنزلق ببعض المعلومات الخاصة تقدِّمها للقارئ مجاناً وتلقائياً، ومثال ذلك ما جاء على لسان سعاد في فصل "سعاد" حيث يستنبط القارئ حقدها على المجتمع القروي وعلى سلطة الأب المنكر لبناته والكاره لهن..
وتبقى الفكرة والوعي صنوَيْن في أغلب الأعمال الإبداعية يطرحهما الكاتب ويتلقاهما المتلقي ليؤولهما فتزداد إنتاجية المعنى وترتفع درجة الوعي، ليصل إلى سدرة التنفيذ فيتحرّر المجتمع من كلّ آفاته، وهذا ما يصبو إليه الروائي "هارون الصبيحي" الذي اعتاد ترديد: إنّ وظيفة الأديب أنْ يساهم في حلّ أزمات المجتمع والمواطن بشتى الوسائل أقلّها الكلمة!!