علي الزعتري

علي الزعتري يكتب:يوم في حياة نازح

نبض البلد -
نبض البلد -

يوم في حياة نازح

كل نازح و نازحة بسبب الزلزال أو أهوال الحروب يعيش يوماً مكرراً بائساً و حائراً بينما تتهاوى حوله مقومات الحياة التي اعتاد عليها. تنظر الوفود و الكاميرات للمباني المهدمة و جهود الإنقاذ و تبدأ الحملات لتوصيل المعونات. لكن يوم النازح و النازحة مُضنٍ و صعب. لا تصل المعونات رغم أهميتها القصوى و تنوعها لمرحلة طمأنة النازح علي يومه اليوم و الغد. لقد عايشت هذا عن قرب و أود أن أشرح ببعض التفصيل هذا اليوم الطويل، لتقديرِ القارئ و المُعين للنازح.

في الساعات الأولى للكارثة خوفٌ من فقد الأسرة للحياة. شعورٌ بالهلعِ و اليأس والرجاء مع التشبث بالمعاول و صرخات و سواعد الشباب و ما يصل من فرق دفاع مدني و غيرها تنبش الركام لتجد الأحياء والأموات.

خرجنا أحياءً و بعضنا له أموات. الأمواتُ بحاجةٍ للدفن و الدفن ليس عمليةً سهلةً عندما يموت الآلاف. التعرف علي الميت وتجهيزه حسب الشريعة و إيجاد الناقل للجثمان و المدفن كلها تفاصيل حياةٍ لنازحٍ قد لا يجد ما يلبس وقايةً من برد شتاء فكيف بتدبير جنازة.

نبقى مع الأحياء. الخطوات الأولى هي تحركٌ جماعي بمجموعاتٍ متلاصقة تبحثُ عن مأوى. أيَّاً كان شكله لكن المهم أن يكون له سقف. البعض يلجأ لزوايا جدارية لا تزال قائمة و ينصب فوقه ستارةً أو خيمةً. بعضهم يتجه للمسجد و الكنيسة، و المدرسة و القاعات الصامدة بوجه الزلزال. هذا البعض هو بالمئات والآلاف. بنيتنا المعمارية لم تصمم للإيواء بهذا الشكل. لا توجد ملاجئ مصممة ومجهزة. تفترش العائلات الأرض علي سجادة أو حرام و بطانية. و لأجل الستر قد ترتفع قطعة قماش لتكوين فاصلٍ بين العائلات. هذا العائلات التي أتت بما تلبس لا تملك بعدُ ما يمكنها من أن تعيش. لا يوجد أدوات طعام و لا نظافة جسدية و لا دواء اعتادت عليه الأجسام المريضة. لا يوجد مشط للشعر و لا ملابس إضافية لتغيير ملابس تتسخ. لا يوجد في الملجأ المؤقت حماماتٍ تكفي للمئات من المستخدمين. يقفون صفَّين طولين للرجال و للنساء ليستخدموا هذه الحمامات. لكن لا يمكن الاستحمام. و لا يوجد ماءٌ ساخن. لا يوجد طعامٌ تعودوا عليه. ولا للطفل حليبه أو طعامه. لا يوجد خصوصية لاحتياجات النساء. و يهيم الأطفال بين الصفوف. تتجمع النفايات لتصبح آفةً.

في أحد الملاجئ توقفتُ لساعات مع آلاف النازحين من الغوطة الشرقية. الذهول هو الذي يسيطر علي الوجوه، ثم الالتفات لما يعين علي تحمل الموقف الصعب و ما كان يأتي علي رأس القائمة هو الخروج من هذا الملجأ غير المهيأ للحياة لأنه بُنيَ ليكون مصنعاً غذائياً. لكن الخروج لم يكن سهلاً لاعتباراتٍ أمنية صارمة. و الخروج لأين؟ لم يكن فيه هذا المصنع المتوقف عن العمل سوى غرفتي حمام لقضاء الحاجة. اصطفَ العشرات لاستخدامهما دون وجود حائلٍ مناسبٍ كما اعتاد الناس ببيوتهم. و لم يكن هناك مطبخ. لم يكن إلا الانتظار للمعونات التي لم تتأخر ولكنها لم تكن تكفي لتلبية كل الاحتياجات. إحتياجات المتضررين الأسوياء. أما المتضررين الذين كانوا يعانون من إعاقات فكانت معونتهم أصعبَ بمراحل. النفايات كانت بكل مكان. الوزارات و الهلال الأحمر والأمم المتحدة والمنظمات الأهلية تلتطم بالاحتياجات و ترتب بينها من يقوم بماذا. كانت حالة هروبٍ من حرب و بها ما بها من تعقيد.

زلزال تركيا وسوريا أفرزَ أضعافاً مضاعفةً من المآسي التي تعوَّدَ عليها السوريين و إن لن يتعود أحدٌ علي كارثةٍ بمثلِ هذه، و اختبرها الأتراك بقساوة. ذكرتني الصور المباشرة للبنايات المتحطمة بالمدن التركية بتلك الأحياء السورية التي مررتُ بها في الغوطة و حمص و حلب و الآلاف من المهجرين النازحين. مبانٍ منهارةً علي بعضها البعض. لم تنهار من زلزال بل من حرب.وتذكرت الاحتياجات المتشابهة لأي إنسانٍ يعاني حرباً و زلزالاً. فقدان العزيز و المأوى و حاجاتك الشخصية و الاطمئنان و لو بزاويةٍ تحميك ثم فقدتها لتجد أنك في الشارع و الملجأ و الخيمة و ما تيسر من مأوى مكشوفاً للرائح والغادي. وتطايرت الانتقادات لبطء عمليات الانقاذ و ما حدث حقيقةً أكبر و أكثر فداحةً من قدرة أي دولة وجيش. تركيا كانت أكثر سرعةً لتماسك مؤسساتها و سوريا مجروحة من جراء حربٍ طويلة و انقسامٍ بين سلطات في حلب و إدلب. الأمم المتحدة لم تصحُ من صدمةِ المساعدات التقليدية لسوريا فأصابتها صدمةٌ مضاعفة بالزلزال. و هي لا تملك ما يكفي كماً و نوعاً و حجم المعونات المطلوبة لإغاثة ضحايا زلزالٍ مدمر. تداعي الدول العربية و الصديقة كان هو العامل الأساسي لتقديم المساعدة المنقذة للحياة. و لذلك اشتكى المتضررون من مساعداتٍ أسموها هزيلة و فضيحة قدمتها الأمم المتحدة. والواقع أنها ليست كذلك لمتضرر نازحٍ فقد كل شيء.

افتضحت وسائل الإعلام تقديم أوانٍ مطبخية و حاويات مياه في شحنات المعونة الأممية. و هذه جزءٌ بسيطٌ من قائمةٍ طويلةٍ من المستلزمات التي تقدمها الأمم المتحدة. هذه القائمة تضم ما يحتاجه الإنسان ليعيش و هي ليست قائمةً عشوائيةً بل أساسية. النازح يحتاج كل شيء يمكنه أن يقاوم صعوبة الحال إلى يتوفر له سبيل العودة التدريجية لحياةٍ مقيمة غير نازحة. بالطبع بعض المساعدات قد لا يكون إنسانياً و قد أتى في هذه الكارثة و غيرها من كوارث من غير مصادر الأمم المتحدة.

قد نتحول لنازحين خلال دقائق و هذه حقيقةٌ اثبتها زلزال تركيا و سوريا. الدولة مطالبة بالاستعداد. بمعظم الدول العربية لا توجد خطة و لا ملجأ يعالج كارثةً كالزلزال. إن حدثَ فسنصبح نازحين و سيكون في يومنا الطويل العصيب حاجةً للقليل و الكثير مما يعيننا علي التحمل. فلنتعظ من الكارثة فهي قريبةٌ و لو ابتعدت، و حاضرةٌ و لو تأخرت. هكذا هو الزلزال. لكني أنادي لخطةٍ تعالج كل كارثة، وحرب. نحن بحاجة لخطة و تمرينٍ عليها و تهيئة.

علي الزعتري

فبراير ٢٠٢٣

الأردن

ali.alzatari@gmail.com