لماذا نستمتع بجهد الآخرين؟ هذا ما يقوله علم النفس حول إدمان مشاهدة فيديوهات التنظيف

نبض البلد -
نبض البلد -

ملايين المشاهدات تحصدها فيديوهات التنظيف على مواقع التواصل الاجتماعي، تلك التي تتضمن بعض الحِيَل لغسيلٍ أكثر لمعاناً، وكيفية الترتيب ثم إعادة التنظيم بمجهودٍ أقلّ وسرعة أكبر، إضافةً إلى الاهتمام بنظافة الحمام.

غالباً ما تظهر فيديوهات التنظيف أمامنا على شاشة اللابتوب أو الهاتف، خلال تصفّحنا فيسبوك أو إنستغرام أو تيك توك ويوتيوب. لكن هل تساءلتم يوماً: ما السرّ الذي يُبقينا مسمَّرين أمام شاشاتنا لمشاهدة أحدهم وهو يغسل سجادته مثلاً أو ينظف شرفة المنزل؟

حين ظهرت النتائج النهائية للمحتويات الأكثر مشاهدة خلال العام 2021، عبر منصاتٍ كبرى مثل تيك توك ويوتيوب، تبيّن أن فيديوهات التنظيف و"فلوجات" المنازل في المقدّمة.

ما المغري في مشاهدة فيديوهات التنظيف، والتعرّف على روتين التنظيف العميق لسيدة من ريف مصر مثلاً، أو أين المتعة في اكتشاف خطوات تنظيف المجلى لسيدة أخرى من كوريا الجنوبية؟

كيف تجني الملايين وأنتَ في المنزل؟

في الولايات المتحدة، توثق جيسيكا تال يومياتها في المنزل؛ كيف ترتب وتنظف، ومن أين تبدأ، وما أبرز الحِيل التي تتبعها. يبلغ عدد المشتركين في قناتها على يوتيوب أكثر من نصف مليون مشترك، وقد حصدت منذ انطلاقتها في العام 2015 وحتى الآن ما يقارب 65 مليون مشاهدة.

تجني جيسيكا من القناة فقط نحو 6 آلاف دولار في الشهر، ولكن هل تحسبون أنه مبلغٌ عظيم، مقابل تصوير فيديوهات التنظيف بشكلٍ يومي؟

في الواقع لا، ثمة آلاف الدولارات -وربما الملايين- يمكن تحقيقها بواسطة التخلص من الغبار، وغسل الأطباق، وترتيب المنزل. والـ6 آلاف دولار الشهرية، هي فقط أرباح وعائدات يوتيوب، لا نعرف تحديداً كم تجني جيسيكا تال من الإعلانات مثلاً.

في مقابل جيسيكا، هناك سيدة تعيش في منزلها الخاص داخل إحدى قرى كوريا الجنوبية، تظهر في فيديوهات التنظيف عبر قناتها الخاصة على يوتيوب، مع حرصٍ شديد على عدم الكشف عن وجهها أبداً.

ومن دون كلامٍ أيضاً، ومع تصويرٍ مُتقن وموسيقى هادئة، وكلماتٍ تظهر على الشاشة، استطاعت هذه السيدة أن تحصد قرابة 216 مليون مشاهدة منذ انطلقت قناتها -التي تحمل اسم Hami mommy– عبر يوتيوب في أغسطس/آب 2019.

في الجزء المخصّص للتعريف عنها (About)، تقول: "أحب المنزل، وأحب التدبير".

أما فيديوهات التنظيف التي استطاعت من خلالها أن تحصد مشاهدات من كافة أنحاء العالم، فتحمل عناوين مثل: "روتين التنظيف اليومي للحفاظ على نظافة المنزل"، "كيفية التنظيف بذكاء عبر استخدام العناصر المُعاد تدويرها"؛ وتدرّ عليها دخلاً سنوياً، يتراوح بين 15 ألفاً و242 ألف دولار.

من كوريا الجنوبية إلى مصر، تفوقت سماح على قرينتها الكورية الجنوبية بإجمالي 364 مليون مشاهدة، منذ افتتاح قناتها في العام 2018 وحتى الآن.

وعبر قناتها، التي تحمل اسم "حبّي حياتك ودلّعي مطبخك"، تطبق سماح الفكرة ذاتها في فيديوهات التنظيف، من حيث التفاصيل اليومية، ولكن بطريقة شعبية أكثر. لدى سماح قرابة مليون ونصف المليون مشترك في قناتها، مع إجمالي مكاسب يتراوح بين 19 ألفاً و303 آلاف دولار سنوياً.

كلمة السر في انتشار فيديوهات التنظيف: "الوباء"

"رغم أن غسل اليدين يبدو أمراً بديهياً، فإني -حين علمتُ أننا صرنا وسط جائحة عالمية وموتٍ ينتظر الجميع، يمكن تلافيه ببعض الماء والصابون- شعرتُ برعبٍ شديد، وأردت أن أتعلم أنا وأولادي الطريقة الصحيحة لغسيل اليدين".

أمل مسعد، أم أربعينية لثلاثة أطفال، تُضيف لـ"عربي بوست": "كنتُ أشعر بتوترٍ شديد خلال فترة الوباء، ولم يكن يخفف عني في الليالي الثقيلة سوى فيديوهات التنظيف. منحتني شعوراً بالراحة".

في الواقع، لعب وباء كوفيد-19، دوراً محورياً ورئيسياً في تحوّل فيديوهات التنظيف تلك إلى ما يُشبه الوباء الإلكتروني.

ففي دراسةٍ علمية نُشرت بمجلة Health Education Research الأمريكية في أغسطس/آب 2022، خلص الباحثون إلى الدور اللافت الذي تلعبه فيديوهات التنظيف في نشر الوعي والتعليم الصحي خلال فترة الوباء.

مع الإشارة إلى اختلاف جودتها، ومصادر معلوماتها، فردية كانت أو تابعة لجهات رسمية وغير رسمية. فعلى سبيل المثال، حظيت فيديوهات غسل اليدين، التي تضمنتها الدراسة، بـ37 مليون مشاهدة!

وعلى العموم ترتفع نسب مشاهدات فيديوهات التنظيف أكثر وأكثر، حتى بعد انقضاء الوباء. وتشير الإحصاءات الصادرة عن موقع تيك توك إلى أن فيديوهات التنظيف صارت من بين أنواع المحتوى الأسرع نمواً، ضمن فئة المنزل والحديقة؛ ولم يختلف الأمر، حتى مع انتهاء الإغلاق العام والإجراءات الاحترازية.

الأثر القوي لمقاطع التنظيف

ما الذي قد يدفع الناس إلى مشاهدة فيديوهات التنظيف تحت هاشتاغ #cleaningtok أكثر من 3 مليارات مرة، وما الذي قد يحوّل فتاة عادية تعمل بمجال التنظيف إلى نجمة عالمية؟

ربما تمتلك رانيا سمير إجابة، الأم الشابة التي حظيت بتوصية خاصة من صديقتها بضرورة مشاهدة فيديوهات التنظيف الخاصة بـAurikatariina، والملقبة بـ"ملكة التنظيف".

على فيسبوك تقول رانيا: "قالت لي صديقتي إن تلك السيدة تقوم بأمرٍ نبيل وغريب جداً في الوقت نفسه، إنها تنظف بيوت المكتئبين مجاناً. بيوت قمة في القذارة والاتساخ تحوّلها السيدة -مجاناً- وبمجهودٍ شاق، إلى جنة".

وتتابع رانيا: "فتحت المقطع الأول، ثم صرت مدمنة لمشاهدتها. أشاهد مقطع الفيديو حتى أصل إلى تلك اللحظة، حين تختفي طبقات القذارة وأكوام القمامة وأطباق الطعام الفاسد. حين تتحول أماكن غير آدمية إلى أماكن قابلة للحياة".

وتختم قائلة: "أتنفس الصعداء وأشعر بحماسة لأنظف. في أحيان أخرى أستغل تلك المقاطع كحافز، حين لا أجدني قادرة على تنظيف المنزل أو غير راغبة، فأستعين بتلك المقاطع".

"متعة مشاهدة الآخرين وهم ينظفون"؛ كان هذا عنوان التقرير الذي أعدّته صحيفة New York Times حول إدمان مشاهدة فيديوهات التنظيف في الولايات المتحدة الأمريكية.

بدا غريباً لكاتبة المقال أن يشاهد الناس مقاطع فيديو تتضمن غسل الأرضيات، وتنظيف الأحواض، وإزالة الغبار، وطي الملابس، وتفريغ غسالات الصحون.

لكنها وجّهت السؤال هذه المرة إلى صانعي المحتوى، الذين أكدوا أن إنتاج فيديوهات التنظيف يساعدهم هم أنفسهم على احتمال واجبات العمل المنزلي الثقيلة، وغير المحسوبة كأعمالٍ مدفوعة الأجر.

في تقريرٍ لها بعنوان "ترويق الروح"، وصفت الكاتبة المصرية هبة خميس تجربتها مع مشاهدة فيديوهات التنظيف، خاصة ذلك المقطع الخاص بتنظيف السجاد، مؤكدةً أن الأمر -مع الوقت- يتحوّل إلى ما يُشبه العادة، خاصة قبل النوم.

وختمت تقريرها بمقولتها "إدراك تلك الحقيقة جعلني أقلع عن التنظيف العميق، مكتفية بالتنظيف السطحي من دون إنهاك صحتي، مع متابعة البرامج ومقاطع تنظيف أقذر المنازل، مثل ذلك المقطع للرجل الذي استمر في فرك السجاد بفرش التنظيف لـ15 دقيقة. فيسري ذلك شعوراً بالخدر في جسدي، وينقلني للنوم رغم الأرق، وتصبح تلك المقاطع القصيرة وسيلتي لاستعادة الراحة في تنظيف المنزل، حين يغسل الترويق الروح".

أما سارة كوتريل، فقد اعتبرت أن مشاهدة مكنسة كهربائية تمتص الغبار الكثيف في ثانيتين مشهدٌ مريحٌ للأعصاب، تتخيله بينما تتأمل أرضية مطبخها المغطاة بالغبار وطبقة من العلامات المختلفة.

تقول كوتريل، في تقريرٍ لها نُشر في نوفمبر/تشرين الثاني 2021: "يسعدني أن أعلم أني لستُ وحدي، شيء يهدئنا ويجعلنا نشعر بإرهاق أقلّ. أفكر في مدى روعة مشاهدة مكنسة كهربائية تمتص الغبار بالكامل في ثانيتين، فأشعر بارتياح".

رأي علم النفس: أسباب إضافية لن تخطر ببالك

يترتب على مشاهدة فيديوهات التنظيف مجموعة من الآثار النفسية غير المتوقعة، يُمكن تلخصيها فيما يلي:

اليقظة.. هنا والآن: يقول الدكتور أحمد مرعي، استشاري الطب النفسي وعلاج الإدمان، لـ"عربي بوست"، إن مشاهدة تلك النوعية من الفيديوهات تدفع العقل إلى التوقف عن التفكير لوهلة، ويتابع:

"هكذا يتوقف تدفق الأفكار المقلقة، فلا يخبرنا عقلنا عما حدث بالأمس، ويتوقف لوهلة عن التفكير فيما سيحدث لاحقاً؛ كأنه تدريبٌ عملي على اليقظة.. هنا والآن".

مفيدة في حالات الاكتئاب والإجهاد: بحسب المعالجة النفسية كارولين جيفن، فإن مشاهدة هذه الفيديوهات مُغرية للأشخاص الذين يعانون من الإجهاد والاكتئاب، والذين يشعرون بالسعادة بعد مشاهدة التغيير الإيجابي.

وفقاً لجيفن، فإن هذا التغيير يمكن أن يكون معدياً، وهكذا تصبح هذه المقاطع السريعة بمثابة عاملٍ محفز -جسدياً وعقلياً- للمشاهد.

تحفيز الحواس وتجربة الـASMR: أصوات المياه، تشغيل الحنفيات، خرفشة إسفنجة الصابون وهي تزيل الأوساخ، صوت فرشاة التنظيف؛ جميعها أصوات تثير استجابة ممتعة، تُسمى ASMR، تصير من خلالها الأصوات الناعمة قادرة على إثارة أحاسيس مختلفة، تتنوع بين الاسترخاء والشعور بالوخز، يبدأ من فروة الرأس ويمرّ بالرقبة أو الكتف. كما أبلغ البعض عن أن تلك الأصوات تساعدهم على النوم.

في دراسةٍ أجريت عام 2018، أفاد المشاركون فيها بأنهم قادرون على تجربة إحساس الـASMR من عمر 15 عاماً. وأكدوا أنهم يستخدمون فيديوهات التنظيف كوسيلة للاسترخاء. كما وجدت الدراسة دوراً لهذه المقاطع في خفض معدلات ضربات القلب.

4. تمنحك شعوراً بالسيطرة: في دراسة بعنوان "وُلد ليختار: أصول وقيمة الحاجة إلى السيطرة"، خلص الباحثون فيها إلى أن مقاطع التنظيف توفر بيئات قابلة للتحكم كلياً. وأشاروا إلى أنها تمنح المتفرج شعوراً بالسيطرة والإنجاز، حين تنتهي المهمة -التي تأخذ في الواقع ساعات طويلة- في دقيقتين فقط.