رسائل في التجربة الاعتقالية

نبض البلد -
وائل الجاغوب
(كتابات لها تاريخ)
سليم النجار

توطئة
إن كل عمل كتابي يتم اعداده داخل الأسر ونتمكن من إخراجه يحمل حكايته الفردية المتمايزة، حكاية أبطالها عدة دونهم لا يرى العمل النور، دورهم يتعدى المؤلف للعمل، وهذا نابع من وجودنا في ساحة استثنائية "ساحة الأسر" حيث ما يتم خارجها بسهولة أو يُعتبر بديهي سهل وتفصيلي هنا في ساحة يُعتبر مُعقد وصعب يتطلب إبداع ويتطلب صبر ومثابرة، وهذا ما يجعل كلُ عملٍ نعمل من أجل أن نُخرجه يٌمثِلُ حالة انتصارٍ أُخرى على السجان، فسياسة الحصار والعزل وسياسة الملاحقة اليومية وكل ورقةٍ بيضاء خُطت على سطحها كلمات، فالكلمات تُخيفُ السجان الغاصب فيُلاحقها، ونحنُ من هنا نحاول أن نكُتبَ المُلاحقة، نحن لا نعلم هل سننجح في إخراجها او لا، فأنت تحت الرقابة في دائرة المُلاحقة تحت الحِصار في واقع مُحدد جغرافيا.
ومن هذه الأعمال التي خرجت من الأسر "رسائل في التجربة الاعتقالية" لوائل الجاغوب والتي صدرت عن دار الرعاة - رام الله- جسور- عمان- ٢٠١٩.
ولد الأسير وائل نعيم أحمد الجاغوب في قرية بيتا - نابلس - ٥/٢٣/ ١٩٧٦
درس المرحلة الابتدائية والإعدادية في مدارس نابلس، اعتقل للمرة بتاريخ ١٩٩٢/٥/١٦ وحكم بالسجن لمدة ست سنوات، وانهى خلالها الثانوية العامة،
تحرر من سجون الاحتلال عام ١٩٩٨ ليبدأ مباشرة بدراسته الجامعية بجامعة القدس المفتوحة بتخصص تسويق ، اعتقل للمرة الثانية في مطلع انتفاضة الاقصى بتاريخ ٥/١/ ٢٠٠١ وحكم عليه بالسجن المؤبد.
من أهم القضايا التي شغلت المفكرين في كل زمان ومكان المسائل المتعلقة بالأخلاق، فالحياة الانسانية حياة خُلقية بالضرورة، تَدخل في نسيجها القيم والأحكام والاختيارات والمفاضلات.
مازالت حائرا مما ذكرته قبل قليل، ويتقلب في رأسي وساس القلق، وجحيم العقل، الذي يدفعني بالسؤال: كيف يكتب أسير فلسطيني محكوم بالمؤبد في سجون الأحتلال الأسرائيلي؟
حلّت ساعة اليقين إذن، واهتز عندي كل يقين، أو أعتقدته يقينا في الكلمة والرؤى والحياة.
وبحثت عن إجابة عن سؤالي، بدفع سؤال آخر: هل ورثنا المقاومة لهذا السجان الاسرائيلي من حضارتنا العربية؟
عكفت لفترة من الوقت للبحث عن إجابة ما عن هذا السؤال، فالفلسطيني في طرائق عيش معينة "المعتقل الأسرائيلي" ، في مبادئ خُلقية نضالية، في قيم مقاومة، في أذواق فنية تفضح هذا العدو، في علاقات اجتماعية بين الأسير وسجنه، (لم نرضخ كنا متماسكين، صدر الحكم بحقي وصدر حكم المؤبد بحق المناضل سمير الطوباسي هذا الشاب كان من أشد المتحمسين لمقاطعة المحاكم العسكرية، اتهم بأنه كان متوجهاً لداخل فلسطين المحتلة لتنفيد عملية استسهادية ، وضبط بحوزته حزاماً ناسفاً ولم تسطع إدارات الاحتلال أن تنال منه وهذا ما انطبق على محمد اليدك الذي صدر بحقه الحكم المؤبد، وكذلك أحمد أبوخضرة لعدة مؤبدات وجهاد الباشا حكم لسنوات، وآخرون ممن حالوا الحفر في الصخر لإحداث مجرى مقاوم لإجراءات الاحتلال ص٧٠-٧١ ).
حضارتنا التي ورثناها، يمكن تلخيصها بعبارة واحدة، إذ نقول إنها حضارة أخلاقية. كما يمكن تلخيص حضارة الفلسطيني هذه الأيام وهذا العصر بقولنا إنها حضارة علمية تُكتب في معتقلات الاسرائيلي.
لكن ماذا نعني بقولنا أن حضارتنا حضارة أخلاق؟ نعني، أول ما نعني، أن أداتها كانت ومازالت الكلمة، كما فعل الجاغوب، في البناءات الخطابية، التي ستكون الحركات والمواد هنا قبل تكون شيئا ما، وستبقى صلبة كما استشهد بها الجاغوب، (الرسالة الخامسة " الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات، فالمرء إما أن يكون حراً أو لا يكون" نيلسون مانديلا" ص٩٣).
ولكي اصف الفرق بين حضارة العربي الفلسطيني وهمجية العدو الأسرائيلي على نحو أشد وضوحاً، سأتعين بذكر الرسالة التاسعة للجاغوب، ("من يريد بقوة يستطيع معرفة العناصر الضرورية لتحقيق ارادته - غرامشي" ص١٤٤).
وكما سأستعين بنوع من الرؤية العلمية عند إحدى مدارس علم النفس الحديث الذي تجد فيه تيارات ومدارس مختلفة، ولئن اتفقت كل المدارس النفسية على أن مهمتها هي استخراج قوانين السلوك البشري أو قوانين الأنماط السلوكية، فإنها تختلف في تحليل تلك الأنماط: ما دوافعها؟ كيف تتكون؟ كيف تتغير؟
ومن أوضح النظريات في هذا المجال ما قاله العالم النفسي الأمريكي وليم ماكدوغال في تقسيم الحياة النفسية إلى ثلاث مراحل هي الادراك والوجدان والنزوع، وهذه المراحل الثلاث هي دائما متكاملة، ويستحيل على أي منها ان توجد على حدة، بل لا بد لكل منها أن تجر الاثنتين الاخرين معها.
وبعيداً عن التأويلات التي قد يفعلها لقارئ "رسائل - في التجربة الاعتقالية"، لا بد من القول أن الجاغوب استطاع توظيف بعض مفاهيم علم النفس في الكشف عن ذوات المحقق الأسرائيلي، ("من أجل الدخول والسيطرة على مخيم لاجئين، يتعين علينا أن نبحث وندرس نظرية الحرب لدى الألمان، عندما أقدموا على احتلال وتصفية غيتو وارسو " ضابط في جيش الاحتلال الإسرائيلي" ننتصر على هتلر، أبرهام بورغ، ترجمة بلال ظاهر، وسيم سلامة ص٤٨).
ومن أهم الحالات النفسية التي وظفها الجاغوب الإدراك، بمعنى أن الأنسان يبدأ ليعرف شيئاً بأن يدرك شيئا ما، بأن تكون له دراية بما حوله، بل دراية أيضاً بحالته هو نفسه، (عادوا وسألوا لماذا ألقي الطعام، فرددت ببساطة لأني مضرب، وأنني متوقف منذ اللحظة عن الفحص الطبي اليومي، وكان الرد ملائماً للحدث، حيث حضرت بعد أن أدركت أنها لن تستفيد شيئا من خطوات صبيانية ص ١٢٧- ١٢٨).
أما الوظيفة الثانية التي وظفها الجاغوب "الوجدان" الذي يذهب إلى الطاحونة الداخلية، طاحونة العقل، طاحونة الفكر، لكي تنصج وتصبح إدراكاً ما أو فكرة ما،(وتخلص المشروع بالعمل من أجل إثارة ملف الأسرى المرضي على كافة المستويات، ووضع برنامج نضالي متصاعد، مطلبه إطلاق سراح الأسرى المرضى ص١٤٠).
كما انه لا بد اللجوء لفكرة النزوع كما فعل الجاغوب، وهذا النزوع لا يأتي من فراغ، إنما لا بد له أن يستتبع حالة معينة داخل الانسان، هذه الحالة قوامها العاطفة، الانفعال، العقيدة الراسخة في الكيان العضوي نفسه وما بريحه من حالة تنفس، (إن العقل الذي يقف وراء مؤسسة إدارة السجون يرى بأن هناك أهمية في ابقاء مطالب الاسرى قائمة دوما ص١٤٣).
فكما قلنا، كلنا نتفق على ماهية القيم الخُلقية٠ غاية ما هناك الاختلافُ في الأولويات وفي المضامين الواقعية العينية التي تملأ الإطار للمعتقل الإسرائيلي، وهذا ما قام به وائل الجاغوب في" رسائل - في التجربة الاعتقالية".