القهوة العربية.. أكثر من مجرد مشروب لتعديل المزاج

نبض البلد -
نبض البلد -قد تمتلك لوناً ذهبياً أو بنياً أو أسود، ويفضّل أهل كل منطقة أن يضيفوا إليها أنواعاً مختلفة من البهارات مثل الهيل والزعفران والقرنفل، وفي جميع حالاتها تتميز بطعمها المر وارتباطها بعادات وتقاليد صارمة يجب اتباعها عند تحضيرها وتقديمها وشربها… نتحدث هنا عن القهوة العربية التي لا تعتبر مجرد مشروب يعدل المزاج ويزيد الطاقة والنشاط، بل هي أيضاً دلالة على الكرم عند العرب ورمز للألفة والسلام، وقد تكون أيضاً تعبيراً عن الشجاعة ونذيراً للحروب.  

القهوة العربية.. بديل عن لبن الإبل ورمز من رموز الكرم
تحتل القهوة العربية مكانة استثنائية في كثير من البلدان، فيعقد الرجال لها مجالس خاصة يطلق عليها أسماء متعددة مثل "الديوانية” أو "الشبة” أو "القهوة”، وغالباً ما تقدم القهوة العربية إلى جانب التمر، لاسيما في دول الخليج.

ومنذ انتشار القهوة في المجالس عند العرب، حلت محل لبن الإبل الذي كان يقدم للضيف كرمز من رموز الكرم.  

وعكس القهوة العادية التي تغلى عادة في المطابخ ثم تسكب بالفناجين وتقدم للضيوف، توجد أعراف قبلية خاصة لتقديم القهوة العربية، أبرزها استخدام "الدُلة”، والفناجين الخزفية أو الفخارية التي تتميز عن فناجين القهوة العادية بأنها لا تحتوي على مقبض لإمساكها.

أما ” الدُلة” فهي الركوة أو الآنية التي تُصب منها القهوة العربية في الفناجين، وتتميز بأشكالها الفريدة وأنواعها المختلفة، فلدينا مثلاً الدلال الحساوية، والعمانية، والرسلانية، والقرشية، في حين تعتبر الدلال البغدادية هي الأكثر جودة والأعلى سعراً. أما عن سر تسمية الدلة بهذا الاسم، فهو اشتقاق من كلمة الدَلَه التي تعني "الأُنس”، في إشارة إلى الأنس المصاحب لجلسة القهوة العربية.

آداب تقديم القهوة العربية

إذا كنت المضيف، فهناك أصول لا بد أن تعلمها قبل أن تقدم القهوة العربية لضيوفك، إذ يجب أن يكون مقدم القهوة واقفاً، يمسك الدلة بيده اليسرى والفنجان بيده اليمنى، ولا يجلس أبداً حتى ينتهي جميع الضيوف من شرب القهوة.

ويبدأ المضيف بتقديم القهوة للحاضرين من يمين المجلس إلى يساره عملاً بالسُّنة الشريفة، وقد يبدأ بالضيف الأكبر سناً أو الأعلى مقاماً بين الحاضرين.

كذلك، يتوجب على المضيف أن يكرر صب القهوة لضيوفه إلى أن يهز الضيف فنجانه تعبيراً عن اكتفائه من القهوة أو أن يخبر المضيف مباشرة بأنه لم يعد راغباً بالمزيد.

ورغم أن القواعد آنفة الذكر متفق عليها في سائر أنحاء شبه الجزيرة العربية، فإن بعض آداب تقديم القهوة قد تختلف من منطقة إلى أخرى.

على سبيل المثال، يشترط في بعض المناطق بالمملكة السعودية ألا يكون فنجان القهوة مملوءاً وإلا اعتبر ذلك إهانة للضيف، لكن في مناطق أخرى يعتبر تقديم فنجان ناقصاً إهانة ودليلاً على قلة الكرم، لذلك من المهم معرفة التقاليد الدقيقة التي يتبعها أهالي كل منطقة في شرب القهوة العربية؛ تجنباً لحدوث سوء الفهم.

أما إذا قال أحدهم: "قهوتك صايدة”، فهذا يعني أن القهوة فيها خلل ما، فقد يكون مذاقها غير جيد، بسبب احتراق حبوبها في أثناء التحميص، أو قد تكون قد سقطت فيها حشرة ما، وتعبر تلك العبارة عن رغبة الضيف في تغيير فنجانه واستبداله بآخر.

مهارة صب القهوة العربية وشربها!

قد تبدو مهمة صب القهوة مهمة سهلة واعتيادية من الممكن أن يقوم بها أي كان، لكن ذلك لا ينطبق على القهوة العربية.

يشترط في مقدم القهوة العربية أن يكون ماهراً في سكبها من الدلة في الفناجين، وفي أثناء ذلك يجب أن يُحدث صوتاً خفيفاً عبر ملامسة الفناجين بعضها ببعض، وتهدف هذه الحركة في الغالب إلى تنبيه الضيف إلى أن دوره قد جاء، في حال كان سارحاً.

لكن إذا كانت القهوة تقدم في العزاء فيُحظر حظراً تاماً إصدار أي صوت بالفناجين مهما كان بسيطاً.

وكما تتطلب عملية صب القهوة مهارة ومعرفة بالأصول، كذلك يتطلب شربها اتباع خطوات مدروسة، إذ يتوجب على شارب القهوة العربية أولاً أن يهز فنجانه ببراعة يميناً وشمالاً حتى تبرد القهوة ثم يقوم بارتشافها بسرعة ويعيد الفنجان للمضيف.

القهوة العربية في السلم والحرب

عند البدو والقبائل العربية تعتبر القهوة أكثر بكثير من مشروب يجمع الأحبة في جلسات الأنس، ففضلاً عن كونها رمزاً للكرم، للقهوة دلالات أخرى في الحرب والسلم.

فلنفرض، على سبيل المثال، أنك لجأت إلى شيخ عشيرة لتطلب منه طلباً ما، كيف ستعرض حاجتك على الشيخ؟ بكل بساطة سيقدم لك شيخ العشيرة القهوة العربية ترحيباً بك، في هذه الحالة لن تشرب فنجانك إنما ستقوم بوضعه على الأرض.

سيلاحظ الشيخ حركتك تلك على الفور ويفهم مغزاها فيسألك: ما حاجتك؟

اعلم أولاً أنه من الأدب والأصول ألا تطلب طلباً تعجيزياً في مثل هذا المقام، إذ يجب أن تراعي مجلس القهوة الذي تقدم طلبك من خلاله فلا تطلب شيئاً مستحيلاً.

إذا قضى شيخ العشيرة مطلبك فسيأمرك بشرب قهوتك معتزاً بنفسه لعدم ردك خائباً، واعلم أيضاً أنك إذا وضعت فنجانك على الأرض لكن شيخ العشيرة لم يلاحظ ذلك ولم يسألك عن حاجتك، فإن ذلك يعتبر عاراً وعيباً كبيراً في حقه، وسينتشر خبر هذا العار غالباً في القبيلة والقبائل المجاورة.

وقد بلغ من احترام العرب للقهوة أنهم استخدموها كذلك في دلالات الحرب والمعارك، فإذا وقعت معركة بين قبيلتين وظهر فرد بارز في تلك المعركة من أحد القبيلتين، يجتمع شيخ القبيلة الثانية بأفرادها ويسألهم: "من يشرب فنجان فلان”، مشيراً إلى ذاك العدو البارز، ويقصد بقوله: "من يتكفل به ويقتله في أثناء المعركة”، عندها يتطوع أكثر أفراد القبيلة شجاعة ويقول: "أنا أشرب فنجانه”.

وبذلك يقطع هذا الشجاع عهداً أمام الجميع أنه إما سيقتل ذاك العدو في المعركة وإما أنه سيموت، وسيجلب العار لنفسه مدى الحياة إن لم ينفذ وعده.

وقد بلغ من أهمية القهوة العربية أنها أدرجت ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي فيمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافةعام 2015، وفقاً للموقع الرسمي لـUnesco.

طريقة تحضير القهوة العربية

كما تقدم القهوة العربية وتُشرب بأصول وأعراف معينة، كذلك توجد عادات وتقاليد مرتبطة بطريقة تحضيرها أيضاً.

تحمص القهوة العربية على النار أولاً في وعاء معدني مقعر خاص بهذه الوظيفة، يتميز بيد حديدية طويلة ويطلق عليه في بعض المناطق اسم "المحماسة”.

إذ توضع حبوب البن في المحماسة وتحرك بهدوء وتروٍّ حتى تنضج حباتها، وتختلف درجة النضج التي يجب أن تصل لها حبوب بن القهوة العربية من منطقة إلى أخرى.

بعد أن تنضج الحبوب، تدق وتطحن في إناء معدني خاص، ثم تضاف إليها البهارات مثل الهيل والقرنفل والزعفران والزنجبيل والقرفة، إذ تختلف أنواع البهارات المستخدمة ومقاديرها من منطقة إلى أخرى. بعد ذلك يتم تحضير القهوة العربية في الدلة وتقديمها للضيوف.

وتتميز القهوة العربية بأنها مُرة ولا يضاف إليها السكر أبداً.

من "القهوة العربية” إلى "القهوة السعودية”

منذ أن ظهرت هذه القهوة في شبه الجزيرة العربية أطلق عليها ببساطةٍ اسم: القهوة العربية. لكن هذا العرف تغير في المملكة العربية السعودية مع حلول عام 2022.

فقد أعلنت السلطات السعودية تعميماً لجميع المطاعم والمقاهي والمحامص في المملكة، لتعتمد بموجبه اسم "القهوة السعودية” بدلاً من "القهوة العربية”.

ورغم أن هذا القرار حاز إشادة من قبل كثير من السعوديين الذين يعتبرون القهوة العربية عنصراً ثقافياً مرتبطاً بهوية المملكة، فإنه أثار جدلاً حول أصول القهوة العربية ورأى كثيرون أنه لا يجب حصرها في حدود المملكة.

فعلى سبيل المثال غرد أحدهم قائلاً: "طيب إيش الفرق يين القهوة السعودية وبين القطرية وبين الإماراتية. باختصار نفس الطعم نفس التحضير. شو الي يميزها؟ لا شيء، مجرد سعودة”.

لكن هذا الصراع حولأصول القهوةلم يخلق في 2022، فهو صراع قائم منذ الأزل، أما أطرافه فليسوا بالتأكيد السعودية أو قطر أو الإمارات، فلطالما كان الجدل حول تاريخ القهوة قائماً بين دولتين من أهم منتجيها: إثيوبيا واليمن.

تاريخ القهوة.. حروب إثيوبية-يمنية

هناك روايتان شهيرتان عن أول من اكتشف القهوة، الأولى قادمة من إثيوبيا، والأخرى من اليمن.

تقول الحكاية إن راعياً إثيوبياً يُدعى كالدي، لاحظ سلوكاً غريباً اعترى معزاته، فقد بدت أكثر حيوية ونشاطاً، بل أكثر مرحاً وسعادة أيضاً، وبعد التحري اكتشف أن الماعز تناولت منذ قليل، حبات صغيرة من نبات بات يُعرف في أيامنا هذه باسم "القهوة”، وكان ذلك في نحو عام 700.

أستطيع رؤية الراعي وهو واقف والحيرة تعتريه، ينظر إلى الماعز تارة وإلى النبات تارة أخرى، قبل أن يُقرر قراراً أشكره عليه بشدة بصفتي من عشاق القهوة، ألا وهو أن يجرب تلك الحبات العجيبة بنفسه.

وبعد أن لاحظ كالدي النشاط الذي بُعث بجسده بسبب هذه الحبات مُرة المذاق، هرع الراعي إلى أقرب دير ومعه حفنة من حبات القهوة، ليخبر الراهب بتأثيرها، لكن الراهب المتعصب لم يرُقه ما سمع، وسأل الراعي: هل أنت مجنون؟ ثم ألقى بحبات القهوة في النار، وسرعان ما انتشرت رائحة البن المحمص في المكان، وما أدراك ما رائحة البن المحمّص، تلك الرائحة أغرت رهباناً آخرين بالتجربة، فتناولوا الحبات المحمصة الساخنة وأضافوا إليها قليلاً من الماء لتبرد، ثم شربوا السائل الناتج، معلنين ولادة أول فنجان قهوة في العالم.

مهلاً.. هذه فقط الرواية الإثيوبية لتاريخ اكتشاف القهوة، لدينا قصة يمنية أيضاً سنرويها لكم وتستطيعون تبني القصة التي تعجبكم في نهاية المطاف.

بطل القصة اليمنية هو "راهب المخا” علي بن عمر القرشي الشاذلي، يحكى أن علياً كان راهباً يمنياً صوفياً عاش في مدينة المخا، ولسبب ما، قرر الراهب أن يسافر إلى إثيوبيا، وهناك تزوج امرأة جميلة، وكانت نبتة القهوة التي لم تزرع بعد، هناك هديته لزوجته الإثيوبية.

ويقال إن شراب القهوة السائل اكتُشف في "المخا” قبل أن ينتشر في أي مكان آخر بالعالم.

وسواء كانت القهوة قد اكتُشفت في إثيوبيا أو في اليمن، فنحن ممتنون للغاية لمكتشفي القهوة التي لا يستطيع معظمنا إتمام يومه بنشاط من دونها.

عربي بوست