د. عبدالله الطوالبة

د. عبدالله الطوالبة يكتب: ليت الشيخ الجليل يتوقف عن التنبؤ!

نبض البلد -
نبض البلد -ليت الشيخ الجليل
يتوقف عن التنبؤ!

  ما يزال الوقت مبكراً، لنسيان "التنبؤ" بنشوب حرب بين الولايات المتحدة الأميركية والصين. لم يكتفِ المفكر الاقتصادي طلال أبو غزالة بالتنبؤ بالحرب، بل زاد على ذلك تحديد موعد اشتعال شرارتها، في أواخر أيلول أو بداية تشرين أول 2020. الذين استمعوا وقتها إلى الرجل يبث كلامه هذا في الناس، لربما خطر ببال بعضهم ان الرئيس الأميركي أو وزير دفاعه، همس في أذن أبي غزالة، ذات لقاء مع أحدهما:  سنهاجم التنين هذا العام، وتحديداً في 29 أيلول أو يوم الثالث من تشرين أول الساعة الخامسة و38 دقيقة صباحاً بعد صلاة الفجر. 
مرَّ شهرا أيلول وتشرين الأول بسلام، وما تزال الصواريخ العابرة للقارات والقاذفات الاستراتيجية على جبهات أبي غزالة المفترضة بين الصين والولايات المتحدة، صامتة. لكن أبا غزالة مستمر بمفاجأة متابعي حلقات برنامجه الأسبوعي "العالم إلى أين؟"، على قناة روسيا اليوم الفضائية، بتنبؤاته وتوقعاته، التي لا يفتأ يذكِّر بين حين وآخر أنها مبنية على قراءاته الخاصة، وكأنه ينفي تهمة لا قدر الله. لقد خصَّ الاقتصادي ورجل الأعمال المعروف بني قومه بواحدة من قراءاته الأخيرة، وبما بنى عليها من توقعات. 
ففي حلقة يوم الأحد، لِستٍّ خلون من كانون أول الجاري، ألفيناه يقول، إن منطقتنا العربية أمام فرصة وصفها بالتاريخية، للبدء بإعادة الإعمار، كونها "الأكثر تدميراً في العالم" و "أكثر منطقة تحتاج لإعادة إعمار" بحسبه. ولا ندري على أي أساس يقول ذلك. ويواصل كلامه بما يشبه الاستنتاج من دون ايراد دليل واحد على ما يقول "إن الإعمار سيعود على منطقتنا بإزدهار كبير لما تحتويه من قدرات وثروات". ويدعو بإلحاح إلى ضرورة البدء بإعادة الإعمار، منطلقاً من فرصة جديدة كما وصفها، يراها  "لإنتاج مشروع أميركي صيني لإعمار العالم". بدوري، أدعو كل من يقرأ هذا المقال أن يُعلمنا إذا كان قد قرأ في وسائل الإعلام الأميركية أو الصينية شيئاً يخص تينك الفرصة وذينك المشروع، او سمع تصريحاً لمسؤول في أيٍّ من البلدين، بشأنهما. فما نراه اليوم بين الدولتين، هو تنافس شديد، وبالذات في ميدان الاقتصاد وتكنولوجيا الاتصال. يُضاف إلى ذلك، تبادل القصف الكلامي على خلفية الاتهامات بالهجمات الإلكترونية والمسؤولية عن نشر فيروس كورونا وغير ذلك. 
بدأ ابو غزالة في تلك الحلقة مُتَيَّماً بمصطلح الإعمار، لدرجة الوَلَه. فقد نحت تعريفاً للإستعمار، نشك بأنه خطر ببال أكبر المتحمسين له، بقوله: "إنه جاء من الإعمار، أي أنك تحتل مكاناً لتعمره"!
ويبدو أن التِّيه بالإعمار قد صرف انتباه مقدم الحلقة عن ضبط الكلمات، والتدقيق بما أورده لإقناع المشاهدين بوجهة نظره. فقد بدأ باستحضار مشروع مارشال الأميركي، لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. والذي نراه، أن هذا المثال لا يصلح للمقايسة بين أوضاع أوروبا بعد الحرب الكونية الثانية وواقع البلدان العربية اليوم.
لقد دارت الحرب أصلاً في أوروبا، لذا كان حجم الدمار كبيراً، ولم  يستثنِ أيَّاً من دولها. وعلى الرغم من الدمار الهائل، إلا أن الدول الأوروبية حافظت على مقدراتها العلمية، وبخاصة الكفاءات المؤهلة والمدربة. ومن الطبيعي ان يكون لذلك أثره الإيجابي في تشكيل ورش عمل لا تهدأ على مدار الساعة، لإعادة إعمار أوروبا واستئناف مسيرتها النهضوية وتحقيق ازدهارها. أما الدول العربية، فضعيغة في امكاناتها العلمية، والبمسيس الحاجة منها إلى إعادة إعمار، هي العراق وسوريا واليمن وليبيا. وإذا تغاضينا عن الظروف المعقدة في كل من هذه البلدان وافترضنا حدوث معجزة هيأت الظروف لبدء إعادة الإعمار فيها بالتزامن صباح غدٍ، فلا نظن ذلك بمحدثِ فارقٍ  يُعتد به  في "ازدهار" المنطقة العربية.  والأهم من ذلك، أن الولايات المتحدة كانت معنية بإعادة إعمار أوروبا لأكثر من سبب، أولها، تأكيد زعامتها للعالم الرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية. وثانيها، الإستقواء بحلفائها الأوروبيين في مواجهة المعسكر الاشتراكي، بقيادة الاتحاد السوفييتي المنتصر على الوحش النازي. 
إذن، المصالح الأميركية كانت المحرك الرئيس والدافع الأهم لمشروع مارشال، وليس "شعور أميركا بالمسؤولية تجاه أوروبا"، كما قال أبو غزالة. فالدول، وأميركا بشكل خاص، توجهها مصالحها ولا دور للمشاعر الطيبة في رسم سياساتها. 
انطلق مشروع مارشال في ظل انقسام العالم إلى قطبين متنافسين، احتدمت بينهما حرب باردة بعد الحرب الكونية الساخنة الثانية. أما وقد أكمل المعسكر الاشتراكي وعلى رأسه الاتحاد السوفييتي، تدحرجه إلى صفحات التاريخ يوم 24 كانون الأول 1991، فإن البلدان العربية تصنف اليوم على خارطة العالم السياسية كمنطقة نفوذ أميركية، مصالح العم سام فيها مضمونة وغير مهددة. 
لم يتطرق أبو غزالة لشيء مما قلنا. ويلفت النظر تجاهله لعامل رئيس كان له دوره الحاسم في نهضة أوروبا وازدهارها، قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، وهو الديمقراطية. ربما تحاشى الرجل لأسبابه، الوقوع في شِباك قاعدة بأضدادها تُعرف الأشياءُ. فالإعتراف بالحقيقة المومأ إليها قبل قليل، يستدعي الإقرار   بأن الديمقراطية في أوروبا يقابلها استبداد متراكم في المنطقة العربية، تشقى به وتحت وطأته تئِن. ولعل أميركا ذاتها، أكثر المحيطين بهذه الحقيقة المرة. فهي لا شك تعي جيداً أنها تتعامل مع أنظمة عربية أستبدادية متخلفة وغير منتخبة من شعوبها. وبطبيعتها الاستبدادية الفاسدة، فإنها عاجزة عن تحقيق الازدهار لشعوبها بإعادة الإعمار وبغيره. لكن الولايات المتحدة، تدعم هذه الانظمة الفاشلة وتوفر لها الحماية، لضمان مصالحها. هنا، تُعلي أميركا شأن المصالح على حساب حق الشعوب بتقرير مصيرها من خلال الكفاح ضد الاستبداد والاستعباد والفساد. لذا، فإن استمرار الوضع العربي الراهن، هو الأنسب لمصالحها وفي مقدمها حماية الكيان الصهيوني. وبالتالي، فإن العم سام غير معني بحدوث أي نقلة تطورية في الواقع العربي. وأكثر ما يخشاه، حدوث تحول ديمقراطي حقيقي، لعلمه اليقين بحقيقة مواقف الشعوب العربية إزاءَ سياساته تجاه منطقتنا. 
ونسجِّل لمفكرنا الاقتصادي بشكل خاص، احتفاظه بأكثر الكلام إثارة لنهاية الحلقة. من الواضح أن كلامه أطربه، وحلقت به العواطف في فضاءات الخيال والرغائبية. ودليلنا على ذلك قوله في الختام، إن الإزدهار الذي سيعم المنطقة العربية بعد دوران عجلة إعادة الإعمار، سيعيدنا إلى "أخذ دورنا كقوة حضارية في العالم"، لا بل "سيتيح لنا فرصة قيادة الحضارة العالمية". 
أما أنا، فأختم هذا المقال بتمنيات الصحة والعمر المديد لشيخنا الجليل. ومن هذا الباب أيضاً، أتمنى عليه أن يريح نفسه من عناء التنبؤ في السياسة ومن تعب الخوض في احتمالاتها وتحولاتها وألاعيبها. 


ً