المنطقة التي لم يصل إليها كورونا.. قصة الإقليم الذي حمى سكانه من الوباء حتى الآن

نبض البلد -
نبض البلد -فيما لا يزال العالم يكافح جائحة فيروس كورونا المستجد، نجحت نقطة على الكرة الأرضية في حماية نفسها من هذا الوباء بسبب الإجراءات القاسية التي أقدمت عليها، وهذه النقطة هي إقليم نونافوت.

ما حقيقة وصول الوباء إلى هذا الإقليم النائي؟ وكيف نجح سكانه في القضاء على الفيروس؟ هذه الأسئلة سنجيب عنها في تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية.

القصة من البداية

أحد سكان بوند إنليت، وهي قرية يسكنها نحو 1600 شخص في الإقليم الكندي الشاسع الخالي تقريباً من السكان في القطب الشمالي، نونافوت، خرجت نتيجة اختبار فيروس كورونا المستجد الخاصة به إيجابية. لم يغادر ذلك الشخص الإقليم، الذي أغلق أبوابه في وجه الأغراب وطبق إجراءات صارمة بحظر سفر سكانه.

وفي غضون 24 ساعة، عزل متتبعو المخالطين 20 شخصاً من الطرف الشمالي الشرقي لجزيرة بافن آيلاند، وأغلب سكانها من شعب الإنويت، وهؤلاء الأشخاص من المحتمل أنهم اختلطوا بالمصاب. وبعد أخذ مسحات من 13 منهم، جاءت النتيجة سلبية بالكامل.

يقول باترسون، كبير أطباء نونافوت: "كنا مرتبكين قليلاً". لذا أعادوا إجراء الاختبار على المسحة الأصلية، وجاءت النتيجة سلبية.

وقد أعلن الإقليم أن النتيجة الإيجابية كانت كاذبة، وتنفس 39 ألف مواطن الصعداء في الإقليم الذي تزيد مساحته قليلاً عن المكسيك، وعدل باترسون عدد الإصابات المؤكدة بفيروس كورونا، من واحدٍ إلى صفر.

وبعد أكثر من شهر من ذلك الإنذار الكاذب، تبقى نونافوت الولاية الوحيدة في أمريكا الشمالية التي لم تسجل أي حالة إصابة بفيروس كورونا الذي أمرض الملايين وقتل أكثر من 375 ألف شخص في أنحاء العالم. وقد سجلت كل مقاطعة وإقليم في كندا وكل ولاية أمريكية ومكسيكية بضع حالات إصابة على الأقل.

وقد أعلن رئيس حكومة نونافوت، جو سافيكاتاك، في مؤتمر صحفي إخباري الأسبوع الماضي أنه "ما زالت لا توجد حالات إصابة مؤكدة أو محتملة بكوفيد-19 في نونافوت. ويسرني دائماً قول هذا".

ومن الضروري أن يبقى الوضع هكذا، وهذا يعني اتخاذ بعض القرارات الصعبة.

جزيرة منعزلة

يضم الإقليم 25 قرية صغيرة والعاصمة إيكالويت، ولا يصل بينها وبين باقي أقاليم كندا إلا الطيران. وهذه الطبيعة النائية للإقليم ربما أسهمت في تقليل احتمالات وصول الفيروس إليه. لكنها أيضاً تجعله أكثر الأماكن عرضة للخطر في كندا حال انتشار الفيروس.

إذ يضم الإقليم مستشفى واحداً في إيكالويت، به 35 سريراً فقط. ويضطر أغلب النونافوتيين إلى مغادرة الإقليم لتلقي الرعاية الصحية، من جلسات العلاج بالكيماوي إلى إجراء الأشعة التشخيصية وعمليات الولادة. ولا توجد أسرة عناية مركزة، ولا يضم المستشفى إلا مجموعة قليلة من أجهزة التنفس الصناعي.

إسبانيا بلا وفيات بكورونا لليوم الثالث على التوالي - رويترز

والنقص المزمن في المنازل، في إقليم تنخفض فيه درجات الحرارة تحت الصفر أغلب أوقات العام، يعني أن تعيش عدة أجيال من كل أسرة تحت سقف واحد، ما يجعل التباعد الاجتماعي صعباً. تعاني نونافوت أيضاً من اضطراب إمداد الأغذية وموجات تفشي مرض السل التنفسي الذي جلبه الأوروبيون إلى المنطقة قبل قرون.

وقد اعتذر رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو العام الماضي عن طريقة تعامل الحكومة مع تفشي السلّ في القطب الشمالي في الفترة من أربعينات إلى ستينات القرن الماضي. فقد انتزعت الحكومة أبناء الإنويت من عائلاتهم، وأرسلتهم إلى مصحات لم يعودوا منها أبداً، ضمن ما سمّاه ترودو "تاريخاً طويلاً من الاستعمار المدمر".

وشعب الإنويت، الذي يمثل 85% من سكان نونافوت، أكثر عرضة بـ300 مرة للإصابة بمرض السل، بالمقارنة بمواطن كندي المولد من غير السكان الأصليين.

ويقول كولين دافيسون، عالم الأوبئة بجامعة الملكة في أونتاريو: "إن وصل الفيروس إلى مجتمع الإنويت، فمن المحتمل أن تكون العواقب كارثية".

كيف حمى الإقليم نفسه؟

لذا طبقت نونافوت إجراءات صارمة، إذ حظرت حكومة الإقليم دخول أغلب الأغراب عن المنطقة، ومن بينهم الكنديون في المناطق الأخرى. وعلى العاملين بالمهام الأساسية والسكان العائدين إلى الإقليم، ومن بينهم المسافرين لتلقي العلاج، أن يخضعوا لعزل صحي مدته 14 يوماً في فندق اختارته الحكومة في أوتايا أو وينيبيغ أو إدمونتون أو يلون ايف في الأقاليم الشمالية الغربية المجاورة. ولا يتسنى سوى للسكان الذين لا تظهر عليهم الأعضاء ويحملون تصريحاً من كبير الأطباء باترسون العودة.

وقد أكمل إجمالي 908 من سكان المنطقة فترة العزل الطبي، وفقاً للمتحدث باسم وزارة الصحة سكوت هيتشكوكس، وهناك قرابة 240 آخرين معزولون. وقال هيتشكوكس إن الحكومة أنفقت مليون دولار على "مراكز العزل" اعتباراً من السادس من مايو/أيار، وقد تم رفض دخول 140 شخصاً.

يشتكي البعض من صرامة الإجراءات، إذ قالت امرأة من إيكالويت لهيئة الإذاعة الكندية إن مستشفيات العزل كانت أشبه بـ"السجن"، وإنها لم تتمكن من استنشاق الهواء الطلق إلا بصحبة الأمن.

وقال باترسون: "أتفهم مخاوفهم. لن نتظاهر أن التجربة ستكون ممتعة.. إنها الطريقة المثلى لتقليل فرصة اندلاع عدة موجات تفشٍّ موزعة على بضع مجتمعات في الوقت نفسه".

بلدة بوينت روبرتس الأمريكية قرب الحدود مع كندا/ Istock

ولا يرى باترسون أن حظر السفر سيبقى إلى أجلٍ غير مسمى. لكنه قال إنه سيكون آخر القيود التي سيتم رفعها.

موميلاك كاكاك، التي تمثل شعب النونافوت في البرلمان الكندي، عادت مؤخراً إلى قريتها الأم في بيكر ليك، وهي قرية برية يمكنك أن ترى فيها الطبيعة "لكيلومترات وكيلومترات"، بعد عزل طبي دام 14 يوماً.

وخشيت كاكاك من جلب الفيروس إلى مجتمعها، لذلك هي تدعم القيود المفروضة. لكنها قالت إنه من كان الممكن ألا تكون القيود صارمة إلى هذا الحد إن كانت الحكومة الفيدرالية قد عالجت الكثير من المظالم طويلة الأمد في نونافوت في ما يتعلق بالرعاية الصحية والإسكان في المقام الأول.

وأكملت كاكاك: "كانت هناك الكثير من الأشياء التي يمكن فعلها لكي لا يشعر بالناس بالإحباط أو الإرهاق أو الضيق. أشعر دوماً بأن عليّ إعطاء أسباب لكي تُعامل حياتنا على قدم المساواة بحيوات الآخرين".

وقد أعلنت الحكومة الفيدرالية دعمها لشركات الطيران الشمالية وخصصت مئات الملايين من الدولارات لدعم مجتمعات السكان الأصليين أثناء الجائحة. لكن كاكاك قال إن بعض الأموال المخصصة لنونافوت تصل ببطء، ولا تمثل إلا ضمادة مؤقتة.

العودة إلى ما قبل كورونا

وستبدأ نونافوت إعادة الحياة إلى مجاريها يوم الإثنين القادم، وستُفتح دور رعاية الأطفال، لكن المدارس ستظل مغلقة، إذ يلتزم الإقليم الحذر أكثر من المناطق التي ضربها الفيروس بعنف. وربما تعود شركات الإنشاءات في 19 قرية إلى العمل على مشروعات البنية التحتية الأساسية مثل المطارات ومشروعات الإسكان بعد انتهاء العمال القادمين من خارج المنطقة من فترة العزل.

وبعد أسبوعين، سيقرر المسؤولون ما إذا كانت القيود سيتم تضييقها، أو الإبقاء عليها، أو رفعها. ويقول باترسون إن الإقليم عليه توخي الحذر في قراراته، لأن الاختبارات يتم إرسالها إلى معامل في الجنوب، ويستغرق ظهور النتائج عدة أيام.

انتقادات كثيرة لسلطات المطار الكندي/ رويترز

وأضاف باترسون: "إن لم نتوخَّ الحذر وجاء كوفيد إلى الإقليم يُمكن أن تتضاعف أعداد المخالطين والمصابين بحلول الوقت الذي نعرف فيه بشأن الحالة الأولى".

يدير دونات جينسون محل بقالة بمجتمع كلايد ريفر الذي يضم نحو 1000 شخص على شاطئ خليج باتريشيا بقرية بافن آيلاند. أصول جينسون من وينيبيغ، ويشعر بأنه "فخور" لأنه يعيش في إقليم لم يصب أي شخص فيه الفيروس، ولا يقدر على الشكوى من القيود المفروضة.

وأقر بأثر الجائحة على سلاسل الإمداد، فالمتجر الشمالي الذي يديره، أو "مركز" كلايد ريفر، يعاني من مشاكل في الحصول على بضائع مثل الحفاضات ومناديل الأطفال المبللة والأرز.

وقال جينسون إن الكثير من الأشخاص يلتزمون بتعليمات التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات في المتجر، ويأمل بأن يستمر الإقليم في إبقاء الفيروس بعيداً.

وأكد أن "الناس هنا قريبون جداً من بعضهم. لن يكون الوضع سيئاً".