اللواء المتقاعد مروان العمد
على إثر اعلان الولايات المتحدة الاميركية مسؤليتها عن الغارة الجوية على مطار بغداد والتي أدت إلى مقتل قاسم سليماني و ابو مهدي المهندس ومن كان معهما من عناصر فيلق القدس ومليشيات الحشد الشعبي ، انطلقت موجة من التهديدات على لسان كبار المسؤولين الإيرانيين بألإنتقام لمقتلهم ومهاجمة أهداف اميركية في أي بقعة من بقاع العالم . كما تم الطلب من القوى الحليفة لإيران مثل حزب الله اللبناني ونظام بشار الأسد والحوثيين وحركة حماس والجهاد الإسلامي وعناصر الحشد الشعبي في العراق بإستهداف أي هدف اميركي وضربه . معللة ذلك بحق الدفاع الشرعي عن النفس بموجب المادة ٥١ من ميثاق الأمم المتحدة ، وهو نفس السبب الذي بررت به الولايات المتحدة الاميركية قيامها باغتيال قاسم سليماني بإعتباره مسؤولًا عن بعض الهجمات التي استهدفت مواطنين أميركيين وأنه كان يخطط للقيام بعمليات أخرى .
وقد ردت أميركا على لسان كبار مسؤوليها على هذه التهديدات بتهديدات مشابهة بل اشد قوة وعنفا . وقال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ان الولايات المتحدة حددت اثنان وخمسون هدفاً ايرانياً ستضربها إذا شُنت هجمات على اميركيين أو مصالح اميركية . وهذا الرقم يشير إلى عدد الرهائن الأمريكيين الذين تم احتجازهم داخل السفارة الاميركية في طهران لمدة اكثر من عام وذلك على اثر قيام الثورة الإسلامية في إيران عام ١٩٧٩ .
وقد عاش العالم اياماً على توقع ان يتم تبادل الهجمات بين الطرفين في أي لحظة وان تتطور الأمور بينهما إلى معارك مباشرة قد تمتد نيرانها إلى العديد من دول الجوار .
وفي الساعة الثانية واربعين دقيقة من فجر يوم الأربعاء الموافق ٨ / ١ / ٢٠٢٠ ( وهذه هي نفس الساعة التي تم فيها شن الهجوم على سليماني ورفاقه من يوم الجمعة الموافق ٣ / ١ / ٢٠٢٠ ) اعلنت إيران عن شن هجمات بصواريخ بالستية على العديد من القواعد الاميركية في العراق ومنها قاعدة عين الأسد والتي تعتبر ثاني أكبر قاعدة عسكرية جوية في العراق ، وهي مقر قيادة الفرقة السابعة في الجيش العراقي وتتسع لخمسة آلاف جندي . ويتواجد بها بالإضافة للقوات العراقية قوات من التحالف الدولي في العراق حيث يتواجد بها قوات أمريكية ودنماركية وألمانية ونرويجية . حيث أعلنت السلطات الإيرانية عن إطلاق العديد من الصواريخ عليها وعلى عدة دفعات بلغ عددها حسب التصريحات بالعشرات وعلى عدة موجات . كما أعلنت عن توجيه موجة من هذه الصواريخ نحو قاعدة أربيل في منطقة كردستان حيث تتواجد ايضاً قوات تابعة لعدة دول من التحالف الدولي . وكانت السلطات الإيرانية تبث فيديوهات عن إطلاق هذه الصواريخ . وفي نفس الوقت الذي كانت تنطلق الصواريخ الإيرانية نحو القاعدتين كانت تجري مراسم دفن جثمان قاسم سليماني.
و فيما كنا نتابع مناظر الصواريخ الإيرانية تنطلق نحو أهدافها المعلنة دون ان نشاهدها وهي تتساقط على أهدافها . و فيما كانت السلطات الايرانية تتحدث عن الخسائر التي لحقت بتلك القواعد والقوات الأمريكية فيها والتي قالت انها بلغت ثمانين قتيلاً ومئات الجرحى والذين تم نقلهم جواً الى خارج العراق ،
كانت الأخبار الواردة من واشنطن تقر بأن هجوماً إيرانيا بالصواريخ البالستية تتعرض له بعض القواعد في العراق التي بها جنود امريكيين وان السلطات المعنية تتابع الموقف لمعرفة ماهي الخسائر . وبنفس الوقت تم الإعلان عن اجتماع عُقد هناك ضم الرئيس ترامب وفريقه الأمني ومنهم وزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان وان المجتمعين بصدد تقييم الأضرار التي اصيبت بها قاعدتين تعرضتا للقصف بإثنا عشرة صاروخاً بالستياً ، ودراسة سبل الرد على هذه الضربة في حال تعرض حياة اميركيين للخطر ، وان الرئيس ترامب سوف يتحدث للشعب الأمريكي بنفس اليوم .
وقد توقع جميع الذين يتابعون الأخبار ان رداً امريكياً مزلزلاً بالطريق وان الأمور سوف تتطور إلى ما هو ابعد من ذلك بكثير . الا انه بعد ساعات أُعلن ان ترامب لن يتحدث بنفس اليوم وإنما في اليوم الذي يليه . واكتفى ترامب بالتغريد قائلاً ( كل شيئ على مايرام ، صواريخ أطلقت من إيران على قاعدتين عسكريتين في العراق . تقييم الخسائر والأضرار التي حدثت حتى الآن جيدة جداً . لدينا أقوى جيش ومجهز تجهيزاً جيداً في أي مكان في العالم والى حد بعيد . سأدلي ببيان صباح الغد)
وبتنا ليلتنا ننتظر ماذا يحمل لنا الغد من أخبار وأحداث . وعندما أتى الصباح ذاب الثلج وبان المرج ليظهر ان العالم كله كما يبدوا كانوا مجرد شهود على مسرحية هزلية بطليها إيران والولايات المتحدة الاميركية . حيث ثبت عدم صحة عدد الصواريخ التي ادعت إيران انها اطلقتها والتي تبين انها بلغت اثنتا عشر صاروخاً فقط واحداً منها على قاعدة أرابيل سقط على بعد اميال منها ، والبقية على قاعدة عين الأسد . كما تبين عدم وجود أية إصابات بشرية لا بين القوات الأمريكية ولا قوات التحالف ولا القوات العراقية . وان عدداً من الصواريخ التي أطلقت لم تصل الى أهدافها وان ما وصل منها لم يسبب خسائر جسيمة ، بل ان بعضاً منها سقط على أرض جرداء ولم يتسبب سوى بحفرة صغيرة على الأرض . وان الأضرار التي لحقت في قاعدة عين الأسد اقتصرت على خسائر مادية . ويبدوا ان رؤوس الصواريخ لم تكن محملة بمواد متفجرة كافية. كما ان نوعية الصواريخ التي أطلقت ليست من النوع المتطور ولا الدقيق الإصابة وان الكثير من الفيديوهات التي نشرتها السلطات الإيرانية عن إطلاق الصواريخ في تلك الليلة كانت مزيفة . كما تبين انه تم إنذار جميع قوات التحالف والقوات العراقية في الأماكن التي تعرضت للقصف قبل موعده بساعة على الأقل . وأنه تم إطلاق صافرات الإنذار في هذه الأماكن ونزول جميع المتواجدين فيها إلى ملاجئ محصنة موجودة تحت الأرض . وأعلن الجانب الإيراني انه لم يتقصد استهداف القوات الأمريكية وإنما أراد إرسال رسالة معينة للجانب الأمريكي وأنها تقصدت عدم الإصابة الدقيقة للقواعد . كما صدرت تصريحات من الجانب الإيراني عن استعدادها لإعادة النظر في الإتفاق النووي . وقد تزامنت هذه الأكاذيب الإيرانية مع سلسلة الأكاذيب المخزية حول سقوط لا بل إسقاط لطائرة الأوكرانية الذي حصل بعد إطلاق الصواريخ البالستية بساعات قليلة .
ومن ناحية أخرى صدرت تصريحات من الجانب الأمريكي بأنه لم يسفر عن القصف الإيراني أية خسائر بشرية . وان جميع المتواجدين في القاعدتين كانوا في أماكن آمنة وان إيران يبدوا انها قد تراجعت عن تهديداتها . وأنه لا داعي لرد الضربة اليها . ولحفظ ماء الوجه أعلن الجانب الأمريكي انه سوف يراقب الوضع وأنه سيقوم بالرد بعنف فيما إذا تعرض مواطنين امريكيين أو مصالح أمريكية إلى أي هجوم تقف خلفه إيران أو التنظيمات والأطراف الموالية لها .
فيما صرح الجانب الإيراني بأنه سوف يرد بشدة في حال تعرضه لهجوم جديد من قبل اميركا . فيما اصر بعض الرسميين الإيرانين على وقوع خسائر جسيمة في القوات الأمريكية ، ويبدوا ان هذا الخطاب كان موجهاً للداخل الإيراني وللاستهلاك المحلي .
ورغم القول ان ترامب حقق من وراء هذه العملية مكاسب كبيرة ونصراً شخصياً له في مواجهة الديمقراطيين ، وأنه ركب قطار الوصول إلى البيت الأبيض للدورة الثانية ، الا انني ارى أن قبول ترامب بتلقي هذه الضربة على مصالح أمريكية من قبل إيران مقابل تجاوزها عن الضربة التي وجهها لها في عملية قتل قاسم سليماني سوف تهز صورته التي ارتسمت في اذهان العالم بأنه لا يتراجع عن أقواله وتهديداته وأنه يفعل ما يقول .
هذا إذا استبعدنا الفرضية الاولى والتي تقول ان قتل سليماني هي عملية مشتركة سعت من خلالها كل من الحكومة العراقية والايرانية والاميركية لتحقيق مصالح آنية وأخرى بعيدة المدى . ويمكن تلمس ملامح هذه المصالح مما قاله ترامب في اليوم التالي للهجوم الصاروخي الإيراني حيث ورد في خطابه أربعة عناوين وهي:
١ - يجب على إيران ان تنهي طموحاتها بالحصول على السلاح النووي .
٢ - سوف تعمل واشنطن على التوصل إلى إتفاق جديد مع إيران يسمح لها بالازدهار
٣ - تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش ) عدوة لإيران ويجب العمل والتعاون الأمريكي الإيراني ضده
٤ - إرسال رسالة سلام للقيادة وللشعب الإيراني .
وهذه العناوين تشير إلى مستقبل مزدهر للعلاقة بين الجانبين والى تعاون ولقاءات علنية بينهما بالعلن بعد ان كان ذلك يتم بالسر حيث ان عسكريين امريكيين كباراً كانوا قد التقوا قاسم سليماني عدة مرات على مدار السنوات الماضية تجاوزت العشرين مرة وكانت الجهات الاميركية المعنية ترفض اي فكرة لاغتياله قبل تلك الليلة.
كما ان خطاب ترامب تضمن عناوين أخرى موجهة لدول المنطقة ومنها قوله ان بلاده لم تعد بحاجة لبترول العرب ( أي ان الدول العربية لم تعد مهمة بالنسبة لاميركا ) . وطلبه من حلف شمال الأطلسي تعزيز مشاركته في الشرق الأوسط وما تبع ذلك من تصريح المتحدثة بإسم الخارجية الأمريكية عن بدء المحادثات حول ذلك وان وفداً من حلف شمال الأطلسي متواجداً الآن في وزارة الخارجية الأمريكية لمناقشة الدور المتزايد للحلف في العراق ، من غير توضيح هذا الدور ولكن وسط إعلان عدد من الدول المشاركة في التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب المتواجدة في العراق عن رغبتها بسحب قواتها إلى خارج العراق . فهل هذا سوف يعني انسحاب هذه القوات على ان تحل محلها قوات من الحلف ؟
هل ما جرى ويجري هو كتابة للفصل الأخير في مصير الشرق الأوسط الجديد ؟ وهل تصريح السفير الأمريكي في اسرائيل وأحد كبار مهندسي صفقة القرن ديفيد فريدمان الذي تزامن مع هذه الأحداث من ان الضفة الغربية كانت محتلة من قبل الاردن لمدة أربعة عشر عاماً إلى ان تم تحريرها في عام ١٩٦٧ هو البند الأخير من هذه الصفقة ؟ وهل هذا الذي يجري هو اعادة توزيع المنطقة إلى ثلاثة محاور وهي المحور الإيراني والذي سوف يمتد إلى الجنوب مروراً بالسعودية لتضع يدها على الأراضي المقدسة فيها وصولاً الى كامل اليمن ومروراً بالبحرين والكويت والإمارات . والمحور التركي الذي سيمتد إلى أطراف سورية ومنها سوف يبحر إلى الشواطئ الأفريقية واضعاً يده على غاز البحر الأبيض المتوسط ليستقر في ليبيا ليمتد بعد ذلك بإتجاه الشرق والغرب ليعيد قسماً من امجاد الدولة العثمانية . والمحور الصهيوني الذي سيمتد عبر البحر الأحمر وربما يصل إلى باب المندب بالإضافة لحصته من غاز البحر الأبيض المتوسط . وهل هناك من سمع عن اتحاد الدول المشاطئة للبحر الأحمر ؟ وهل هذا مرتبط بالكشف عن الثروات النفطية والغازية الجديدة التي اكتشفت في المنطقة والرغبة الأمريكية بالسيطرة على خطوط هذه الثروات واستخدامها في حربها الاقتصادية مع روسيا والصين بالاستعانة مع هذه المحاور الثلاثة القوية ؟
هل نحن مقبلين على تنفيذ المخطط الأمريكي بشأن الشرق الأوسط الجديد ؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى الكثير من الإجابات ولكنها ايضاً تحتاج إلى الكثير من الروية في خوض تفاصيلها إلى ان تتضح الصورة بشكل اكثر.