د. عصام الغزاوي
للاسف طيلة قرن ونيف اوسعنا بلفور والصهيونية قدحا وشتما وتركناهم يفوزوا بفلسطين، وما زالت الأدبيات العربية تتباكى كل عام مع ذكرى هذا الوعد المشؤوم واتفاقية سايكس- بيكو، على انهما الدليل الأوضح على وقوعنا ضحية في براثن مؤامرة كبرى من جانب قوى الاستعمار الغربي والصهيونية العالمية .. لن اكتب مندداً بالوعد كما اعتاد الكثيرون، لكني سأكتب لكشف العقد الصامت بين الحضارة الغربية الاستعمارية والمنظمة الصهيونية، فقد صدرت في القرن التاسع عشر قبل وعد بلفور الذي حسم مسألة توطين اليهود في فلسطين وعود بلفورية، ويُعتبر اول غاز للشرق في العصر الحديث نابليون بونابرت من اوائل القادة الغربيين الذين اصدروا وعدا بلفوريا للصهيونية، فقد جاء في مقدمة الرسالة التي وجهها الى هرتزل: من نابليون القائد الأعلى للقوات المسلحة للجمهورية الفرنسـية في أفريقيا وآسيا إلى ورثة فلسطين الشرعيين .. وقد تعهد نابليون برسالته ان تقدم فرنسا فلسطين وطنا قوميا لليهود.
واصدرت المانيا القيصرية وعد بلفوري في خطاب موجه الى (هرتزل) مؤرخ في ايلول (1898) جاء فيه: ان صاحب الجلالة على استعداد اكيد ان يناقش أمر توطين اليهود مع السلطان (عبد الحميد)، وهو على استعداد ان يأخذ على عاتقه مسؤولية محمية (يهودية) في حالة تأسيسها في فلسطين .. ورغم حرص القيصر على تبني المشروع الصهيوني، إلا انه لم يكن مدركا مدى عُمق الرفض العثماني له، وهو الأمر الذي ادركه إبان زيارته لإسطنبول، لذا حينما تم اللقاء في القدس مع هرتزل، حيث كان من المتوقع ان يُصدر القيصر وعده البلفوري العلني الكامل، تراجع واكتفى ببعض المجاملات الخالية من المعنى.
وكان الوعد الروسي القيصري اخر الوعود البلفورية الذي جاء في رسالة ايضا الى هرتزل عام 1901 ورد فيها ان الحكومة الروسية تنظر بعين العطف الى الصهيونية ما دام هدفها إقامة دولة مستقلة في فلسطين، وانها على استعداد لمساعدتها معنويا وماديا اذا ساعدت الإجراءات العملية التي تفكر فيها على تخفيف عدد اليهود في روسيا .. وخلاصة القول ان وعد بلفور الذي حصلت عليه الصهيونية في مثل هذا اليوم عام 1917 من الحكومة البريطانية هو أهم حدث في تاريخ الصهيونية وتاريخ الجماعات اليهودية في العالم، اذ ان صيغة الوعد كانت واضحة تماما بعبارة (حكومة جلالـة الملك) تنظر بعين العطف الى إنشـاء وطن قومي سيضم (الشعب اليهودي) على ارض فلسطين .. وبنجاح الصهيونية في استصدار هذا الوعد، ثم في اقناع الأطراف المشاركة في مؤتمر فرساي للسلام بضرورة إدماجه في صلب «صك الانتداب» على فلسطين، تمتعت الإجراءات الرامية لتأسيس «وطن قومي لليهود» بغطاء قانوني اضفى عليها «شرعية دولية» لم تكن تتمتع بها من قبل، واصبح للحركة الصهيونية ظهير دولي جاهز ومستعد لحماية مشروعها الاستعماري الاستيطاني في فلسطين .. اليوم وبعد قرن ونيف من صدور وعد بلفور وإبرام اتفاقية «سايكس- بيكو»، يكاد المشروع الصهيوني ينتهي من تحقيق أكثر أهدافه جنوحا، أما حلم المشروع القومي العربي فهو يوشك على الانهيار تماما .. فهل ما تعيشه المنطقة حاليا كان حقا نتاج مؤامرة استعمارية ضد العرب أم انه مؤامرة من العرب على انفسهم؟
رغم ما تعانيه امتنا العربية اليوم من ضعف وتدجين وتجزئة وانقسامات، وعودة الاستعمار اليها بوجوه جديدة، حتى اصبحنا مجرد مسنن في دولابه، ستبقى فلسطين قضيتنا الاولى، وما تتعرض له القدس وفلسطين سيجد صداه لدى كل مواطن عربي حر وغيور.