يتبدى أمامنا اليوم الدمار الذي يحيط بالنظام الاقتصادي العالمي، بينما تفقد الرأسمالية خصائصها الأساسية. ترى ما الذي ينتظرنا بعد ذلك؟ هل هو الانهيار والفوضى، أم الشيوعية؟
دعونا بداية، ننظر إلى عدد من عناوين الأنباء الرئيسية حول العالم في الأيام الأخيرة الماضية:
من الواضح أن العالم بأسره يخطو بخطوات ثابتة نحو الركود الصناعي، والذي سوف يتلوه تراجع في النشاط الاقتصادي وما يصاحب ذلك من تداعيات. وسوف يمس ذلك كل دول العالم بلا استثناء
وبينما تحاول وسائل الإعلام الغربية الرئيسية ربط ذلك الركود بالحروب التجارية التي يشنها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بمعنى أنها ليست سوى ظاهرة مؤقتة وعكسية، لكن الواقع هو أن كل ما يدور من حروب تجارية وركود ليس سوى مرحلة منطقية وطبيعية لانهيار نظام العولمة الأمريكي
فبعد إلغاء الغطاء الذهبي للعملة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1971، بدأت فقاعة الائتمان في النمو، وارتفع الاستهلاك بشكل اصطناعي بمساعدة القروض، وهو ما تبعه نمو في الصناعة. وعقب انهيار الاتحاد السوفيتي انتقلت عدوى النظام الأمريكي إلى جميع البلدان، وارتفعت الديون التي لن تجد في المستقبل من يسددها
لكن المهم، هو تسبب هذه القروض في زيادة الطلب الزائف على البضائع، وما يتبع ذلك من صناعات إضافية. وتشير التقديرات الآن إلى أن الفائض الصناعي حول العالم يبلغ 40%، وهو ما يعني أن انهيار الهرم الائتماني العالمي، سوف يتسبب في إفلاس 40% من المصانع والشركات حول العالم. وليست حروب ترامب التجارية سوى بداية لهذه العملية، حيث يتقرر الآن، أي المصانع ستدخل في نسبة الـ 40% المرشحة للإفلاس، وأي منها سوف تنجو وتبقى على قيد الحياة. دعونا نعود لقائمة العناوين الرئيسية التي عرضناها في بداية المقال، ونشاهد عملية الإفلاس وقد بدأت فعليا
تشير مؤشرات أخرى إلى أن حوالي 30% من الشركات الغربية، بما في ذلك شركات أمريكية، هي شركات مفلسة فعليا، ولكنها تعيش على "جهاز التنفس الاصطناعي"، بمساعدة قروض ميسّرة لأبعد حد، والتي يمكن الحصول عليها إلى ما لا نهاية، حتى لحظة انهيار النظام الاقتصادي بأكمله
فشركة "تسلا"، على سبيل المثال، تعاني من خسارة مزمنة، لكنها لا تشهر إفلاسها بسبب القروض الميسرة، أو شركة "آبل"، العملاق الاقتصادي، التي تزداد ديونها باستمرار، على الرغم من وضعها الاقتصادي المستقر
لكن السؤال يطرح نفسه: من أين تحصل الشركات على تلك القروض الميسّرة للغاية؟
تقوم البنوك المركزية للدول الغربية بخفض سعر الفائدة، وتطبع مزيدا من الدولار واليورو والين وغيرها من العملات، نقود غير مغطاة بالبضائع، لكي تعطيها للشركات والبنوك الغربية في صورة قروض ميسّرة. وحتى الآن، فالدول التي تتمتع بميزان تجاري خارجي إيجابي مثل الصين والسعودية وروسيا وغيرها، مستعدة لقبول الدولار واليورو والين مقابل بضائعها وخاماتها، طالما احتفظت هذه الأوراق الملونة بقيمتها، وتمكنت الحكومات الغربية من الحفاظ على حياة مفلسيها وإبقائهم اصطناعيا على قيد الحياة
لكن ذلك الوضع لن يستمر إلى الأبد، وكما نرى، فتريليونات الدولارات واليورو وغيرها من العملات التي طبعت "بكبسة زر"، وانتقلت من البنوك المركزية الغربية إلى الاقتصاد، لن تستطيع أن تمنع الانهيار، لكنها فقط تستطيع تأجيله، بل وعلى حساب تضخيم حجم الأزمة
وهنا القضية، فالبورصات الغربية منفصلة عن الواقع، وتحلق بأرقام وهمية لأعلى بسبب الإجراءات الهائلة المحفزّة، التي تتخذها الحكومات الغربية، في الوقت الذي ترتفع فيه أسهم شركات خاسرة، لا تشهر إفلاسها، ولا تجري في تلك الأثناء عملية انتخاب طبيعي لشركات ناجحة. أي أن المنافسة الشريفة، التي تعد أساس الرأسمالية، لم تعد من بين خصائص الاقتصاد الغربي. بل أقول أن الاقتصاد في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا قد أصبح سوفيتيا، يسير على نفس النهج الذي كان يسير عليه الاتحاد السوفيتي، حينما كانت الدولة المركزية تدعم المصانع، بصرف النظر عن جدواها الاقتصادية
ثم تأتي قضية ملكية وسائل الإنتاج، والتي تعود للدولة في النظام الشيوعي، لكنها يفترض أن تكون خاصة في النظام الرأسمالي. دعونا نتساءل عن مصير شركة مثل "تسلا"، حينما تنهار البورصات الغربية في نهاية المطاف، ولن تجد من يقرضها. سوف يكون البنك المركزي الأمريكي هو الوحيد القادر على مساعدتها، كما حدث في أزمة عام 2008 مع العديد من الشركات. فحين تفلس الشركات، تذهب ملكيتها إلى البنك المركزي، أي أنها تعود إلى الحكومة، التي حينها تمتلك كل شيء، تماما كما راودت تلك الأحلام لينين وتروتسكي في يوم من الأيام، لتنتصر بذلك الشيوعية في الغرب، حتى وإن لم يكن بنفس الآلية التي كان ينتظرها الشيوعيون. إما ذلك، أو تضطر الحكومة الأمريكية إلى السماح بدمار ثلث الاقتصاد الأمريكي، والتعامل مع تداعيات الثورة والفوضى
هناك بعد آخر، وهو أن الأزمة الاقتصادية في الغرب سوف تؤدي إلى شيوع الأفكار اليسارية، ونحن نرى أمامنا إمكانية كبيرة لوصول اليساري، جيريمي كوربين، زعيم حزب العمال البريطاني، بينما تبدو إليزابيث وورين، ذات الرؤى اليسارية، التي تعد بمكافحة الاحتكار، مرشحة الرئاسة الأمريكية الوحيدة، التي يمكن على أرض الواقع أن تنافس دونالد ترامب، عقب فضيحة بايدن الأوكرانية. ربما تلك ضربات ترد بها الشيوعية من حيث ترقد في قبرها.. لكن الأقرب أن تصبح الفوضى فرصة لحلول زمن الديكتاتوريات، ولا أرى أن يكون للشيوعية أي فرصة واقعية. ففي الأغلب أن ذلك المنحى اليساري في الغرب ليس سوى مرحلة من مراحل انهيار النظام السياسي والاقتصادي. وسوف تأتي الديكتاتورية والرأسمالية الشرسة بدلا من الشيوعية
وكما يقول المثل الصيني العريق "حذار أن تولد في زمن التغيير". لعل الحظ لم يسعفنا في ذلك كثيرا، فالتغييرات التي نراها أمام أعيننا في العالم ربما تكون الأكبر في تاريخ البشرية
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة