ما بعد الحداثة ... !!!

نبض البلد -

نايل هاشم المجالي

يحتل مفهوم الحداثة مكانةً هامةً في المجالس السياسية والاجتماعية ، فهو يفرض صورة وشكلا ونمطا جديدا للانسان ، عقلا ومفهوما جديدا وهوية جديدة ، يواكب في مضمونه ومعطياته مسيرة الحضارة الغربية الحديثة .

فهو ينطوي في بلادنا على غموض لارتباطه بعدة حقول معرفية سياسية وثقافية ودينية واجتماعية ، افرزت العديد من الاشكالات لتعدد ابعادها ومدلولاتها والتدخل بالقيم والمبادئ والعادات والتقاليد السائدة على انها من العصر القديم المتهالك غير الحضاري ، اي ان الحداثة نقيض كل ما هو قديم وكل ما هو تقليدي .

على اعتبار ان الحداثة حركة تغيير تسعى الى التطوير والابداع ، ومن اهدافها تغيير نمط واسلوب التفكير والسلوك ، والعمل على اعتبار انها حركة تنويرية مستمرة تعمل على تغيير النظرة الجامدة للامور الى نظرة اكثر انفتاحاً وقبولاً وحيوية ، لذلك لا بد من التحويلات والتغييرات البنيوية لكافة المستويات الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتقنية في حركة جدلية تصب جميعها في بوتقة الحداثة .

فليس هناك اي معايير ثابتة او مقاييس لقياس مستويات التطور والتغيير ، حتى لا تكشف عن نفسها بشكل واضح ومحسوس لكن المواطن يلمس اثرها في كثير من الاجراءات كتغير المناهج وتغير القوانين المتعلقة بحقوق المرأة وحرية الفرد كذلك يقرأ بنود الاتفاقيات الدولية الموقعة عليها الدول ، والمتضمنة البنود المتعددة ذات المفاهيم الجديدة لدائرة المجتمع والفرد ، على اعتبار انها طفرة حقيقية نحو التضارب والتجانس مع المجتمع الغربي ، على اعتبار انه اكثر تحضراً ومرونة وحرية .

والانفكاك عن الماضي فنحن في زمن جديد زمن النهضة والتنوير ، ويعطي للفرد استقلالية وتحرراً اكثر سواء للزوجة او للاولاد او للهوية وغيرها ، اي ان الفرد يدرك نفسه كذات مستقلة يستمد كل شيء من ذاته وليس من عقيدته او ارتباطاته الاسرية او المجتمعية ، اي انها دعوة الى الذاتية والدعوة الى حرية الذات .

لذلك من بنود اتفاقية سيداو الغاء قوامة الرجل على المرأة ، واعطاء مزيد من الحرية للمرأة باتخاذ الاجراء الذي تراه مناسباً لها في زواجها كالسفر دون اخذ موافقة زوجها ، او السكن خارج مسكن الزوجية ، اي خروج الفرد عن قوقعته بكل ما يربطه من قيود دينية او قيم ومبادئ وتقاليد مجتمعية .

فيواكب ذلك تغيرات وسمات فكرية وفلسفية ، حيث يصبح العقل الحسابي والنقدي هو المعيار لاصدار القرارات ، وهذا دور مناط بالحملات الاعلامية عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة ، منها التواصل الاجتماعي بطرقه وأساليبه وتعاظم قدرته على التأثير بالفكر والعقل ، بحيث اصبح يتحكم ويسيطر على الافراد ويحرك الشارع بسلوكيات معينة يظهر ما يريد ويلغي من يريد ، كذلك فانه حوّل المجتمعات الى مجتمعات مستهلكة يبرز المنتوجات العالمية لتصل للفرد بأقل الاسعار واكثر جودة من المنتج المحلي .

فهناك تجارة حرة وهذه احدى وسائل التسويق التي اثبتت تفوقاً عالمياً اعتاد عليها الناس ، فألغت وجود الفرد في السوق والتسوق كذلك فان الانعزالية والانطوائية للفرد وراء جهاز الكمبيوتر او الهاتف الخلوي جعل العلاقات الانسانية حتى الاسرية والاخوية تنحسر ، ولم يعد هناك دفء وعاطفة كما كانت سابقاً ، ولم يعد هناك هدوء مع النفس او سعادة القلب ، بل زاد القلق وسيطر على الغالبية التوتر والسلوك المنحرف ، بوجود كل شيء على هذه الاجهزة وسهولة الوصول اليه او وصول المنحرفين اليك ، وتستطيع القول ان الحداثة ( ضربت كل شيء حلو بحياتنا ).

ان سكان الدول الاوروبية يتمتعون بالرفاهية العالية ، ومع ذلك نجد ان الدراسات تبين ان غالبيتهم يعانون من الاكتئاب والمرض النفسي والعزلة وازدياد حالات الانتحار والشذوذ في السلوك ، اي ان الحياة الاجتماعية شبه معدومة والضياع والالم النفسي متزايد هناك .

فوسائل التكنولوجيا زادت من العزلة وقربت البعيد وابعدت اقرب الناس اليك ، واصبح هناك مصحات للمدمنين على وسائل الرفاهية عبر تكنولوجيا التواصل الاجتماعي ، وانعدمت وسائل التواصل مع الطبيعة والجلسات الاسرية والعائلية ، وجلسات المسطبة في القرى والتعاليل الاسرية المشتركة ، التي كانوا يتحدثون عن مشاكلهم وهمومهم ويتسامرون .

ولقد اصبح الليل عند مدمني النت قصيراً لانه لم يعد يكفي لاكمال متابعة ما يعرض على وسائل التواصل الاجتماعي واصبح شاحباً ، ولقد اعرض الكثير عن ذكر الله بسبب انهماكه بالتواصل قال تعالى ( ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ) ، فالكثير يعيش في عالم افتراضي وهمي يتيه فيه العقل ويتلف الدماغ ، بين خبر مكتوب وصورة مفبركة وفيديو واحداث وازمات ، كل ذلك غالبيته غير متصل بالواقع لكنه يثير عواطف الانسان ويوجه تفكيره الى اتجاهات عديدة.

اذا اعتبرنا ان النقد هو عبارة عن نشاط متميز للعقل ، والجدل العقلي من اجل الوصول الى معرفة اخرى تثري ما يعرفه الشخص عن موضوع ما ، وهو من المقدرات التي تحفظ الانسان من الخديعة او ضعف المعرفة ، كذلك التمييز بين ما هو حقيقي وواقعي ، وبين ما هو ضرب من الخيال والوهم ، وفيه العديد من الافكار التأملية الرشيدة التي تسود مكان الافكار التقليدية .

اي يكون هناك اثراء للطرح من خلال النقد والتحليل ، حيث ان هناك طرح يكون في حدود المعرفة المحدودة والممكنة حسب قدرات الفرد ، والنقد يثري هذه المعرفة بمزيد من الافكار حتى لا يكون عرضه للتزييف أو لحقيقة كاذبة او ناقصة ، فهو ايقاظ للوعي الانساني عن طريق القدرة على توسيع المفاهيم ، ولقد اصبح النقد في الدول المتحضرة يسمى ب ( فن الحكم ) .

أي الفصل بين الاشياء والحقائق التي يختلف حولها المعنيين ، ووضعها موضع الحوار والتساؤل لازالة اية ضلالة بزيادة المعرفة والقدرة على الاستيعاب ومن اجل التصرف السليم ، ويُظهر النقد اماكن القوة ونقاط الضعف في الموضوع المنقود ، ولا يعتبر هجوماً على شخص او مشروع بحد ذاته .

Nayelmajali11@hotmail.com