نبض البلد - غزة
هم في مكانة عظيمة، حملوا على عاتقهم أمانة، أناسٌ دقت الإنسانية أبواب ضمائرهم، وجعلت منها حكاية صعبة لا أحد يفهم معادلتها، حتى خضع لهم الضمير متبسماً، ومباركاً لجهودهم المعطاءة بإنقاذ أرواح البشرية من الهلاك، فالمسعفون على خط النار ليسوا كغيرهم، فهم جدار صامد قوي في وجه الطغيان والاحتلال، يحاولون بكل ما لديهم من عزيمة وإصرار، أنّ ينقذوا حياة الناس خلال الحروب والكوارث، غير مكترثين بأرواحهم المحمولة على أكتاف أكفان الموت.
محمد صبحي الجديلي (37) عاماً، شهيد الإنسانية، ليس الأول وبالتأكيد لن يكون الأخير، في ظل وجود الأرض التي سرقت من أصحابها، تحت وطأة محتل همجي لا يعرف معنى للقوانين البشرية أو الانسانية، غادر الدنيا شهيداً محمولاً على الأكتاف بعد أن فارق الحياة متأثراً بجراح أصيب بها في شهر ايار مايو الماضي، خلال محاولته إنقاذ طفل أصيب برصاصٍ متفجر قرب السياج الفاصل بمنطقة شرقي جباليا شمال قطاع غزة.
الشهيد الجديلي، ضابط اسعاف في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، له 4 أبناء أكبرهم عادل (11 عام)، وأصغرهم زيد (8 أشهر)،، وأوسطهم راما وميمي، استشهد "أبو عادل"، يوم الاثنين الماضي في مستشفى الخليل بالضفة الغربية المحتلة، بعد أن تم تحويله من غزة لسوء حالته الصحية، إثر إصابته برصاصةٍ معدنية مغلفة بالمطاط، أثناء محاولته انقاذ طفل أصيب بطلق ناري بتاريخ 3/5/2019.
زوجته "منى شراب"، التي لم تبكٍ حتى الآن من هول الصدمة المفاجأة لها باستشهاد زوجها ومفارقته لها، وترك أطفاله الأربعة صغار السن، قالت، إنها صدمت من نبأ استشهاد زوجها، الذي كانت قد تتوقعه في يوم بسبب طبيعة عمله.
وأكملت، في كل مرة يخرج زوجها إلى العمل على حدود القطاع، تسودعه وتطلب منه أن يهتم بنفسه ويعود لهم معافياُ، كي يربى أطفاله الصغار، مضيفةً "محمد عاشر حروب كثيرة، كان يذهب للعمل تحت القصف والنار"، وينقذ أرواح ناس كثيرة".
وبين الوجع في قلبها ودموعها المحبوسة في عينيها الحزينتين، أضافت، كنت دائما أسأله خلال مسيرات العودة أن يرتاح، لكنه كان يرفض، ويقول "في أرواح ناس أمانة احنا شايلينها، ولازم نخاف عليهم ونحافظ عهالأمانة، وما نقصر في عملنا".
وتابعت، محمد كان دائماً نفسه يكون شهيد، ويقول لي بكرة بتصيري زوجة شهيد، انبسطي، كان كلام صعب بالنسبة لي، وعندما أصيب كان كل كلامه وداع، يقول لي دائما ديري بالك على الولاد، وأي شي بدهم جبيلهم، ومتقصريش معهم".
أم الشهيد التي رافقت ابنها وكانت أول من فوجع بنبأ استشهاد، قالت، أنّ الأطباء عملوا كل جهدهم من أجل انقاذ فلذة كبدها، لكن القدر كان أسرع من كل المحاولات، والتوقعات، مؤكدةً أنّهم خبأوا نبأ استشهاده عنه لكنها شعرت بذلك، وسألتهم عن محمد حتى قالوا لها أنّه استشهد.
طفله الأكبر عادل، قاد جنازة والده بالتكبيرات وسط آلاف من المشيعين من كافة الاطياف والطواقم الطبية.
خاض عادل حكاية، سجلت في تاريخ صمود أطفال فلسطين، وكتب اسمه وعنوان شهادة والده في حكايات العز والنضال، حيثُ صبر صبراً شديداً يليق بفرحة أبيه في الشهادة على يد جيش مغتضب لأرض فلسطين منذ الأزل.
مدير اسعاف جباليا بالجمعية والمسؤول المباشر للشهيد "الجديلي" يوسف عبد الحميد أكد، أنّ الجديلي كان مثالاُ للانضباط وحسن التعامل والزمالة والتضحية في سبيل أبناء شعبه وأهله والمصابين في مسيرات العودة.
ونوه، شارك بكافة الحروب التي وقعت على قطاع غزة، يعمل منذ 17 عاماُ في الهلال الأحمر، وخلال فترة حرب 2014 على غزة لم يعد إلى منزله في 51 يوم سوى يومين بسبب قصف قرب منزله.
وتابع، محمد مثال للعطاء والتضحية والخدمة والعمل الانساني، تلقينا خبر استشهاد بصدمة كبيرة، فقدنا انسانا غاليا وعزيزا علينا، ولا نستطيع نسيان الشهيد.
وأكد صديق الشهيد المقرب احمد اللوح، أنّه كان طيب القلب ويحب عمله كثيراً، ولا يتوانى في انقاذ أرواح الناس، فهو من أول المندفعين لإنقاذ الجرحى والمصابين وكان له بصمة كبيرة في اسعاف الجرحى بمسيرة العودة وكسر الحصار.
وقال، محمد شخصية قد لا تتكرر في حبه للعمل الإنساني، وكان يحاول بكل ما في جهده عمل اللازم للمواطنين، وهو محبوب لدى الجميع.
مسئول المتطوعين في الجمعية أحمد مطر، أكد أنّ الشهيد يمتاز بقوة القلب والجراءة، وعند رؤيته لمصاب قريب من السياج الفاصل، كان سباقاً في انقاذه دون الاكتراث للمخاطر التي ستواجه من قبل جيش الاحتلال.
وأضاف، كانت تربطه علاقة أخوة ومحبة مع كافة المسعفين، عمل في عدة مناطق، ويشهد له اهل البريج والقطاع بحبه وطيبة قلبه وتعامله الانساني مع الجميع، كان خبر استشهاده صدمة ووجع لنا جميعا.
مسئول ضباط الإسعاف وسط قطاع غزة عوني خطاب قال، أنّ الشهيد كان عنوانا للانسانية، وللسعفين المثابرين الذين قدموا الكثير من المساعدة لخدمة أبناء شعبنا.