كنت قد كتبت هذا المقال منذ يوم امس وقبل ان اطلع على ما نشرته وكالة الاناضول التركية اليوم الاثنين عن القرار الصادر بالاغلبية عن اللجنة العليا للانتخابات بأعادة الانتخابات المحلية في اسطمبول وذلك بتاريخ الثالث والعشرين من يونيو / حزيرن القادم وذلك استجابة لاعتراضات حزب التنمية والعدالة على نتائج الانتخابات التي جرت فيها واسفرت عن فوز مرشح المعارضة على مرشح حزب العدالة والتنمية برآسة بلديتها )
كنت قد عاهدت نفسي عدة مرات ان لا اتحدث عن الرئيس التركي طيب رجب اردوغان ، واذا تحدثت عنه كنت اتجنب توجيه انتقادات مباشرة له وذلك اتقاء لردود فعل محبي ومعحبي اردوغان وهم عندي اهم من ان اتحدث عن اردوغان كما اراه ومن وجهة نظري . الا انه دائما ما كان يدفعني للتخلي عما عاهدت به نفسي مغامراً بمواجهة حملة من النقد من معجبيه ومحبيه . وقبل ان اقول ما اريد ان اقوله عنه الليلة فأني اريد ان اكرر ما كنت اقوله دائما انني من محبي ومعجبي اردوغان في بعض النواحي ومن اشد معارضيه ومنتقديه في نواحي أخرى .
وكنت قبل ايام قد تحدثت عن الانتخابات البلدية في تركيا والتي جرت بتاريخ ٣١ / ٣ ٢٠١٩ وكيف حشد لها اردوغان بهدف أنجاح مرشحي حزبه العدالة والتنمية بغالبية بلديات تركيا وخاصة الهامة منها . وكيف ان نتيجة الانتخابات قد حققت لحزبه الذي تحالف مع حزب الحركة القومية اليميني الاغلبية العددية من اصوات المشاركين في الانتخابات وبنسبة ٥١٪ من الاصوات واكثر من ذلك بقليل ، الا انه فقد السيطرة على ستة من اكبر البلديات واهمها في تركيا ومنها العاصمة انقرة والمدينة الاهم بالنسبة له اسطمبول وهي التي كان رئيساً لبلديتها في الفترة من عام ١٩٩٤ والى عام ١٩٩٨ ومنها انطلقت شهرته وشعبيته والتي ظلت تحت سيطرة حزب التنمية والعدالة من حينها وحتى الانتخابات الاخيرة حيث اظهرت نتائج الانتخابات تقدماً وان كان طفيفاً لمصلحة حزب الشعب الجمهوري ومرشحه اكرم امام أغلو وعلى حساب مرشح حزب العدالة والتنمية بن علي يلدم رئيس الوزراء التركي السابق قبل إلغاء هذا المنصب ونقل صلاحياته لرئيس الجمهورية بموجب الاستفتاء الدستوري الذي جرى بتاريخ ١٦ / ٤ / ٢٠١٧ .
بالرغم من النجاح التي حققته القائمة الائتلافية هذه على مستوى الدولة وحصولها على اعلى الأصوات الا ان هذا ما كان ليرضي رغبات واهداف اردوغان الذي اراد نجاحاً كاسحاً لحزبه ، ولذا فقد اخذ بشن حملة عنيفة على احزاب المعارضة التي حققت نجاحات في بعض البلديات وخاصة في المدن الرئسية مثل القول انهم سوف يحاربون الدين ويعملون على العودة للعلمانية وانهم سوف يغيرون سياساتهم نحو سورية وخاصة ما يتعلق بأمور اللاجئين . وأخذ وحزبه وبدلا من التسليم باللعبة الديمقراطية التي طالما لعب عليها وطوعها لخدمته وخدمة حزبه يثيرون الشكوك بنتائج الانتخابات خاصة في العاصمة انقرة و في اسطمبول وطالبوا باعادة فرز الأصوات الباطلة وإعادة فرز الأصوات في بعض الصناديق وعندما كانت النتائج تظهر تفوق مرشحي المعارضة بألإنتخابات كانت مطالب اردوغان وحزبه تزيد ويطالبون بإعادة فرز صناديق اخرى ثم جميع الصناديق بالعاصمة وإسطنبول . الا ان اللجنة المشرفة على الانتخابات رفضت ذلك في النهاية وسلمت بلدية انقرة لمرشح حزب الشعب الجمهوري منصور ياواش . وسلمت بلدية اسطمبول لمرشح حزب الشعب الجمهوري اكرم امام أوغلو .
الا ان ذلك لم يرق لحزب العدالة والتنمية فقدم طلباً استثنائياً الى اللجنة العليا للانتخابات يطالب فيه بأعادة الانتخابات من اساسها في مدينة اسطمبول ولا يزال الحزب وعلى لسان اردوغان يسعى لتحقيق هذه الغاية والغاء انتخابات بلدية اسطمبول واعادتها من جديد . وكما أخذ يبحث عن طرف يحوله الى عدو ليلقي عليه مسؤولية ما حصل في هذه الانتخابات كما كان يفعل في كل مرة يجد ان ذلك يخدم مخططاته .
فبعد ان كان عضواً في حزب السعادة وقبلها في حزب الرفاة الذي كان يقوده معلمه ومرشده نجم الدين أربكان أنشق عنه وشكل حزب العدالة والتنمية واصبح اربكان وحزبه هم اعدائه واعداء تركيا وكان اول إنجازاً له بعد نجاحه في الانتخابات هو وضع ثعلب الإسلام السياسي في تركيا نجم الدين أربكان بالسجن بالرغم من عمره الذي كان قد تجاوز السبعين عاماً . وكان أردوغان قد نجح في هذه الانتخابات بالتعاون مع فتح الله جولن وحركته الدينية الدعوية والخدمية ذات الأصول الصوفية على الطريقة النورسية والمعروفة باسم خدمتي او حزمت والتي لا تؤمن بالعمل السياسي ، والتي كان لها أنصاراً بالملايين وكان ذلك في عام ٢٠٠٢ حيث نجح حزب العدالة والتنمية وحصل على غالبية الاصوات . وفي عام ٢٠٠٣ أصبح اردوغان رئيساً لوزراء تركيا . ولكن فيما بعد قامت عناصر قضائية وشرطية بتوجيه اتهامات لبعض المقربين من اردوغان ومن بينهم ابنه بلال بالفساد . كما اصدر القضاء قرارات بالبرائة بحق مجموعتين من العسكريين السابقين والذين على رأس عملهم ،وكان اردوغان قد سجنهم بتهمة مشاركتهم بألإنقلابات السابقة التي حدثت في تركيا وأنهم يخططون للإنقلاب عليه . فقام اردوغان بشن حملة على هذه العناصر واتهمها بالخيانة وانها تأتمر بأوامر جولن الذي بدئت علاقته به تسوء . وكانت النتيجة هي وضع العناصر الشرطية والقضائية هذه في السجون ووقف التحقيقات والملاحقات القضائية بحق ابنه وأصدقائه ومغادرة فتح الله جولن تركيا وذلك في عام ٢٠١٣ حيث أقام في اميركا ولا يزال .
ومع اندلاع الربيع العربي وتدخل اردوغان وحزبه في احداثه لصالح أنصار الاسلام السياسي فقد برر تدخله ذلك بالعداء الكردي لتركيا وان هدف أكراد سورية هو إقامة كيان كردي فيها يمكن ان يؤثر مستقبلاً على الاستقرار في بلده وانه يقصد بتدخله في سورية محاربتهم ومنعهم من تحقيق ذلك . كما أخذ يُضيق الخناق على حزب الشعوب الديمقراطي الكردي بتركيا متهماً اياه بأنه يمثل الجناح السياسي لحزب للعمال الكردستاني بزعامة عبدالله اوجلان الذي يقبع منذ عام ١٩٩٩ في سجن جزيرة اميرالي . وقام اردوغان بحملات من الاعتقالات لانصار وقادة هذا الحزب قي تركيا .
وفي عام ٢٠١٤ قرر اردوغان ان يترشح لرآسة الجمهورية التركية على ان يأخذ معه صلاحيات رئيس الوزراء . وكان رئيس الجمهورية في ذلك الوقت هو عبدالله غل رفيق وصديق اردوغان المقرب والذي اشترك معه بتأسيس حزب العدالة والتنمية . ولما لم يرق هذا المسعى لعبدالله غل فقد اصبح عدواً للجمهورية التركية وتم استبعاده من أي منصب بتركيا ( وفي وقت لاحق تم منعه من الترشح لرآسة الجمهورية كمنافس لآردوغان ) . وبعد أجراء انتخابات الرئاسة وفوز اردوغان فيها ، قام بتعيين الأكاديمي احمد داوود أوغلو والذي كان يشغل منصب وزيراً للخارجية في الحكومة السابقة رئيساً للوزراء لحين اجراء انتخابات نيابية يتبعها استفتاء دستوري على نقل صلاحيات رئيس الوزراء الى رئيس الجمهورية والتي كانت صلاحياته حتى هذه اللحظة شرفية فقط . وفي شهر يونيو عام ٢٠١٥ جرت الانتخابات النيابية التركية وفشل الحزب بالحصول على الاغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة فقام اردوغان بأصدار قراراً رأسياً بحل البرلمان واجراء انتخابات جديدة بتاريخ الاول من نوفمبر عام ٢٠١٥ استطاع خلالها العودة لمجده مستغلاً الاحداث التي كانت تقع في سورية والارهاب واثارة الخوف من الاكراد حيث حقق اغلبية كافية لتشكيل الحكومة والتي عهد برآستها ايضا لاحمد داوود اوغلو والذي كلفه بتأمين الاغلبية اللازمة في البرلمان لاقرار الاستفتاء على تعديل الدستور الا ان المذكور اتُهم من قبل اردوغان بأنه لم يبذل جهداً كافياً لتحقيق هذا الغاية ، مما جعل منه عدواً لتركيا ولاردوغان ، ومما دفع اوغلو لأعلان إستقالته من رآسة الوزراء والحزب فقام اردوغان بتعيين بن علي يلدرم بهذا المنصب والذي نجح بتحقيق تحالف مع حزب الحركة القومية اليميني مما وفر لهذا التحالف الاغلبية اللازمة لموافقة البرلمان على طرح مشروع التعديل الدستوري على التصويت العام من قبل الشعب . ولكن وحتى يضمن تصويت الشعب معه فقد استغل المحاولة الانقلابية الفاشلة والغبية والتي وقعت بتاريخ ١٢ يوليو عام ٢٠١٦ ليقوم بربط هذه الحركة الانقلابية بفتح الله جولن وجماعته ويقوم بشن حملة من الاعتقالات والفصل من العمل لعشرات الالوف من الاتراك والذين لا يزالون يقبعون في السجون ومنهم كبار ظباط الجيش والامن ورجال القضاء والاعلام والمدرسين واغلق العديد من وكالات الاعلام والمحطات الفضائية والصحف والجامعات وكل من كان عمل على افشال استفتائه لتعديل الدستور وكل من عارضه وكان إخرها يوم امس حيث تمت ادانة احد عشر طبيباً من اعضاء لجنة نقابة الاطباء في تركيا لمجرد انهم كانوا قد اصدروا بياناً باسم النقابة ينتقد عملية غصن الزيتون التي قامت بها القوات التركية ضد الاكراد داخل سورية من ناحية انسانية ، الا ان اردوغان وصفهم في حينها انهم من محبي الارهابيين . ولا زالت هذه الاعتقالات مستمرة حتى الآن ومن حين لآخر بالرغم من انه فاز في الاستفتاء الدستوري واصبح يجمع جميع السلطات بين يديه فهو رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وقائد الجيش ورئيس حزبه العدالة والتنمية ، وهو من يعين رئيس هيئة الاركان وكبار قادة الجيش واعضاء المحكمة الدستورية وكبار القضاة في تركيا وهو الذي يجب ان تعرض عليه جميع قرارات مجلس النواب ولا تصبح قوانين الا بعد موافقته عليها . وهو الذي يعلن حالة الطوارئ وهو الذي يلغيها ، وهو الذي يعين الوزراء ويقيلهم وهو الذي يعين كبار المسؤولين في حزبه التنمية والعدالة .
وعندما جرت الانتخابات البلدية ارادها ان تكون استفتاء له ولحزبة ولاثبات زيادة شعبيته . وهو واذ حافظ على نفس النسبة من المصوتين الى جانبة في هذه الانتخابات ، الا ان هذه النسبة قد تحققت بفضل أئتلافه مع حزب الحركة القومية والذي له ثمانون نائباً في مجلس النواب . ولذا فقد كان هذا النجاح بالنسبة له بطعم الهزيمة وخاصاً مع خسارته لاهم بلديات تركيا واكبرها . وهنا اخذ يبحث عن عدو يحاربه وينسب له سبب هذه الاخفاق . ولما لم يبقى اعداءّ له في تركيا الا في السجون او فارين من وجهه العدالة ، فلم يجد اعداء له الا من داخل حزبه العدالة والتنمية حيث صرح ان اعداء تركيا قد تسللوا الى داخل حزبه وانهم السبب في الفشل الذي تعرض له الحزب وانه لابد له وان يضع حداً لذلك وان عليه ان يقوم بتطهير حزبه من هؤلاء الاعداء . وانه لابد وان يواصل حملة تطهير القضاء التركي من اعدائه وخاصة وبعد ان غرد صديقه سابقاً احمد داوود اغلوا على حسابه على تويتر مبيناً اسباب تراجع شعبية الحزب والتي قال ان من اسبابها كان هو تحالفه مع حزب الحركة القومية اليميني المتطرف والشعبوي والمتعصب للاصل التركي والمعادي للاجانب والمعارض للانضمام للاتحاد الاوروبيى والذي سبق وان مارس العنف ضد اعدائه عن طريق شبيبة الحزب المعروفة بأسم الذئاب الرمادية ، والذي يعارض وبكل قوة الاصلاحات المطلوبة لتحقيق تركيا الحديثة والذي كان على عداء شديد مع حزب العدالة والتنمية وخاصة على عهد مؤسسه الب ارسلان توركش وقبل ان يحل محله رئيس الحزب الحالى دولت بهجلي بالاضافة للنظام الرآسي الذي تم اعتماده مما ادى الى تداخل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والحزبية وحصرها بيد شخص واحد .
فهل تشهد تركيا خلال الايام القادمة حملة اعتقالات وتصفيات لأعداء تركيا وهل سيكونون في هذه المرة من اعضاء حزب اردوغان العدالة والتنمية ليقدمهم قرباناً يبرر به تراجع الاصوات التي حصل عليها حزبه والتي كانت سابقاً لا تقل عن الخمسين في المائة من الناخبين الا انها في هذه الانتخابات فقد هبطت الى نسبة اربعين في المائة منها فقط أذا إستثنينا اصوات انصار حزب الحركة القومية .
من حسن حظ اردوغان ان اي استحقاقاً قادماً عن طريق صناديق الاقتراع لن يكون قبل اربع سنوات من الآن . فهل سوف يستطيع اردوغان ان يعود لأغلبيته السابقة دون الإئتلاف مع احزاب أخرى ؟ وكم سيضع في السجون من الشعب التركي بتهمة الخيانة لكي يحقق هذه الغاية ؟ وهل سوف يستطيع المحافظة على وحدة حزبه ام سوف يتعرض للانقسام ؟
هذا ما سأتحدث عنه في مقال قادم واتعرض فيه لما قاله احمد داوود اوغلو وهذا ما سوف تجيب عنه الاحداث والسنوات القادمة .