نبض البلد - حين يغيب الرجال… يبقى الأثر. وليس الغياب ما يُوجِع، بل الفراغ الذي لا يملؤه إلا الصادقون. في الذكرى الأولى لرحيل سعادة الفريق عبد الرحمن العدوان، مدير الأمن العام الأسبق وعضو مجلس الأعيان، يقف القلب عند مساحةٍ من الصمت المهيب، ذلك الصمت الذي يخلّفه رحيل الرجال الكبار حين يتركون خلفهم أثرًا أثقل من الكلمات. لم يكن عبد الرحمن باشا العدوان اسمًا عابرًا في سجلّ المناصب، بل كان قيمةً وطنية تمشي بثبات، وحضورًا يفرض احترامه بهدوء، دون صخبٍ أو ادّعاء.
عرفناه قائدًا حين تتعقّد المواقف، ومعلّمًا حين تتزاحم الأسئلة. جمع في شخصه ندرة التوازن بين الحزم والرحمة، وبين قوة القرار وإنسانية التعامل. كانت هيبته هادئة، تشبه ظلّ شجرةٍ عتيقة؛ لا تحتاج إلى تعريف، يكفي أن تقف بقربها لتشعر بالأمان. لم يطلب من رجاله ما لم يكن أول الملتزمين به، ولم يرَ في الموقع غاية، بل أمانة تُؤدّى وواجبًا لا يُساوَم عليه.
ابن قبيلة العدوان العريقة، حمل من جذورها شهامة الموقف ونبل السلوك، واتّسع انتماؤه ليشمل الوطن كلّه. كان الأردن عنده مسؤوليةً قبل أن يكون عنوانًا، وكان أمنه واستقراره فعلَ إيمانٍ لا شعارًا. لم يُعرف عنه إلا العدل، ولا ذُكر إلا مقرونًا بالكرم وحسن الخلق، فبقيت بصمته واضحة في النفوس قبل السجلات.
ولم تقف إنسانيته عند حدود الوظيفة، بل تجاوزتها إلى الناس جميعًا. كان سندًا بصمت، وعونًا بلا تردّد، يعطي دون انتظار مقابل، ويترك أثره حيثما مرّ. كريم النفس، واسع الصدر، كبير القلب… صفاتٌ اجتمعت في رجلٍ لم يتغيّر بتغيّر المواقع، وبقي وفيًّا لجوهره حتى آخر الطريق.
ويظلّ من أجمل العزاء أن إرثه لم ينقطع؛ فقد بارك الله في ذريته التي حفظت اسمه سلوكًا وخلقًا، فكانت امتدادًا طبيعيًا لمسيرةٍ نظيفة وسيرةٍ طيبة. هكذا يُقاس الرجال: بما يزرعونه فيمن بعدهم، وبالأثر الذي يبقى حيًّا حين يغيب الجسد.
عامٌ مضى على الرحيل، لكن الباشا لم يغب. بقي في ذاكرة الوطن، وفي ضمائر من عرفوه، وفي كل قيمةٍ آمن بها وعاش لها. فالرجال العظام لا يموتون، بل يتحوّلون إلى معايير نقيس بها المعنى الحقيقي للقيادة والوفاء.
رحم الله الباشا الكبير أبا ياسر، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وجعل ما قدّم لوطنه وناسه في ميزان حسناته. وسيبقى، ما بقي الدعاء والذكر الطيب، قائدًا لا يغيب.