نبض البلد -
حاتم النعيمات
في خطوة مستفزة ومفاجئة اعترف إسرائيل بـ "أرض الصومال" كدولة مستقلة، ما جرى هو خطوة مدروسة بدقة من قبل حكومة تل أبيب تحت عنوان إدارة ما يسمى بالأمن القومي الإسرائيلي من خارج الحدود، وبغية بناء نفوذ في مناطق حساسة عبر تحالفات غير تقليدية أبدًا وتزعج عددًا كبيرًا من دول المنطقة.
أرض الصومال كيان لم يحصل على اعتراف أي دولة منذ انفصاله عن الصومال عام 1991، ولكن موقعه الجيوسياسي فائق الأهمية؛ فالإقليم يطل مباشرة على خليج عدن، وعلى مسافة قصيرة من مضيق باب المندب، الذي يعتبر أحد أهم شرايين التجارة الدولية والطاقة في العالم.
إسرائيل، التي طورت عقيدتها الأمنية على مبدأ الدفاع المتقدم خصوصًا بعد السابع من أكتوبر، ترى في البحر الأحمر مجالًا مهمًا وخصوصًا منطقة القرن الإفريقي، والاعتراف الإسرائيلي الشاذ عن الإجماع الدولي سيكون بالتأكيد مقدمة للوجود العسكري في تلك المنطقة، ما يعني القدرة على مراقبة طرق الملاحة في تلك المنطقة، والمناورة ضد خصوم إقليميين مثل الحوثيين المدعومين من إيران، بالإضافة إلى وضع قدم في منطقة باتت محط أنظار الكثير من الدول.
الاعتراف بأرض الصومال يفتح لإسرائيل بابًا سياسيًا وأمنيًا في آن واحد. سياسيًا، يمنحها حليفًا ناشئًا يبحث عن القبول الدولي ومستعد لدفع أثمان سيادية مقابله، إذ تسوِّق حكومة "أرض الصومال" الاعتراف الإسرائيلي على أنه بداية لاعترافات أخرى، بالتالي فمهمتها سهلة في تمرير التواجد الإسرائيلي. أما أمنيًا، فإن الاعتراف يتيح احتمالات التعاون الاستخباراتي، وربما الوصول اللوجستي إلى موانئ استراتيجية مثل ميناء بربرة، الذي تحوّل خلال السنوات الأخيرة إلى محور تنافس إقليمي واضح، كما تشير تقارير دولية متخصصة في شؤون القرن الإفريقي.
إسرائيل قررت على ما يبدو الإمعان في التمرّد على ثوابت المجتمع الدولي وكأنها تقول صراحة إنها قادرة على كسر الإجماع الدولي حين يخدم ذلك مصالحها دون الالتفات إلى ردات الفعل، تمامًا كما فعلت سابقًا في ملفات أخرى، ولهذا لم يكن مستغربًا أن يأتي الرفض العربي والإسلامي والإفريقي سريعًا وقويًا، لأن المسألة لا تتعلق بالصومال وحده، بل بنموذج قابل للتكرار في دول مثل إقليم كوردستان في العراق، ومناطق سيطرة الأكراد وربما السويداء في سوريا، ومن يدري ربما اليمن وليبيا لاحقًا.
في السياق الإقليمي، تحمل الخطوة رسالة ضغط غير مباشرة على دول محورية في البحر الأحمر، وفي مقدمتها مصر والسعودية، واللتان تعتبران أمن هذا الممر جزءًا من أمنهما القومي، كما أنها تعيد خلط أوراق النفوذ في منطقة تشهد أصلًا هشاشة سياسية وصراعات محتملة.
على إثر ذلك أصدر الأردن وعدد معتبر من الدول العربية والإسلامية والإفريقية بيانًا شديد اللهجة رفض الاعتراف ودعم حكومة الصومال الفيدرالية الشرعية (حكومة مقديشو)، وحذر من نوايا تهجير الفلسطينيين من إلى أرض الصومال بأي شكل من الأشكال.
بطبيعة الحال، ذكر موضوع تهجير الفلسطينيين خطير جدًا، ولم يأتي من عبث، فالدول التي أصدرت البيان تدرك أن هناك اتصالات قد تمت بين تل أبيب وأرض الصومال لتنفيذ مشروع التهجير الذي رفضته الدول العربية والإسلامية بالإجماع ليس الأردن ومصر فقط بل إلى أي مكان.
في هذا السياق، لا بد للدول المعنية أن تعود مرة أخرى إلى الضغط على إدارة ترامب للتحرك وبقوة (علاقات إسرائيل وأمريكا ليست في أحسن أحوالها)، وذلك من باب وضع مصالح الولايات المتحدة مع تلك الدول في كفة ومصالحها مع إسرائيل في الكفة المقابلة، تمامًا كما حدث عندما أجبرت واشنطن إسرائيل على إيقاف الحرب في غزة، أعتقد أن هذا التحرك هو أهم إجراء يمكن البناء عليه.
بقي أن أقول أن لمصر نفوذ عسكري في منطقة القرن الإفريقي وفي الصومال بالتحديد، ولديها ملف سد النهضة الذي أنشأته حكومة أبي أحمد الأثيوبية، وللعم، فأثيوبيا تدعم النزعة الإنفصالية لأرض الصومال للوصول إلى الشواطيء، وكل ذلك يزيد الضغوطات على القاهرة من كل حدب وصوب. وأقصد هنا أن مصر تحتاج لإسناد من الجميع، فصمودها يعني حل الكثير من العقد الإستراتيجية في المنطقة.
الخلاصة أن إسرائيل لم تعترف بأرض الصومال لأنها دولة مستقرة، بل لأنها مساحة نفوذ قابلة للتوظيف، وموزع للتحكم والضغط في العديد من الملفات، لتبقى الأسئلة مفتوحة عن المرحلة التي وصل إليها مشروع تهجير الفلسطينيين، وعن جدية السعي لمحاصرة مصر، وعن كفاءة صرف الذرائع التي قدمتها إيران لتل أبيب على طبق من ذهب. أما عن اعتماد الاعتراف الكيانات الإنفصالية فهذا عنوان كبير آخر لا بد من مجابهته مبكرًا.