ترامب وممداني.. وجهان لأميركا المنقسمة

نبض البلد -
د.منذر الحوارات
بعيداً عن أصوله الهندية أو كونه من الجيل الأول للمهاجرين، وبصرف النظر عن الكاريزما التي يتمتع بها، وعن دعمه المعلن للفلسطينيين ورفضه للسياسات الإسرائيلية، فإن فوز زهران ممداني في انتخابات بلدية نيويورك يمثل حدثاً فارقاً في السياسة الداخلية الأميركية، هذا الفوز، في عمقه، ليس مجرد نجاحٍ انتخابي محلي، بل يعبر عن انقلابٍ على النخب التقليدية داخل الحزب الديمقراطي، على نحوٍ يُذكّر بانقلاب دونالد ترامب على نخب الحزب الجمهوري قبل أعوام.
 
صحيح أن الظاهرة «الترامبية» كانت على مستوى أميركا، بينما ما تزال «الممدانية» محلية حتى الآن، إلا أن الرمزية العميقة واحدة: تمرّد القاعدة الشعبية على المؤسسة السياسية الحاكمة، فزهران ممداني، البالغ من العمر أربعة وثلاثين عاما، مسلم من أصول هندية، وُلد في أوغندا لأبوين مهاجرين لم يملكا سوى علمهما وأحلامهما عن الماضي، وهو اليوم مُتهم من خصومه بأنه يساريٌّ متطرف، وبأنه «بوق لحركة حماس»، كما وصفته وزارة الخارجية الإسرائيلية، بل ذهب بنفسه إلى حد التصريح بأنه سينفّذ قرار المحكمة الجنائية الدولية إذا زار بنيامين نتنياهو نيويورك.
كيف يمكن إذاً لشخص يحمل كل هذه الصفات التي تُستفزّ منها النخبة الأميركية التقليدية، ولوبي المال والسياسة، أن يفوز في مدينةٍ تُعدّ مركزاً عالمياً للأثرياء، وتضمّ أكبر جالية يهودية خارج «تل أبيب»؟ الإجابة لا يمكن أن تكون سطحية؛ فالمسألة تتجاوز التصويت إلى تحولٍ اجتماعيٍّ وثقافيٍّ أعمق في بنية الوعي الأميركي، لقد انتصر ممداني على أكثر من خصم في آنٍ واحد، فقد هزم النخبة الديمقراطية التي وقفت سرّاً خلف أندرو كومو، كما هزم المرشح الجمهوري كوريتس سيلوا، وتحدى الهجوم الذي شنّه عليه دونالد ترامب شخصياً ونعته فيه بـ»الشيوعي المعادي لإسرائيل».
جزءٌ من هذا الانتصار يعود إلى مهارة ممداني في مخاطبة الناس بلغتهم اليومية، واستعداده للاستماع إلى مشاكلهم في السكن والمواصلات والرعاية الاجتماعية، وتقديمه برنامجاً يستهدف إعادة توزيع الثروة وفرض ضرائب جديدة على الأغنياء، لقد أجاد الشاب المسلم قراءة المزاج الأميركي الجديد، تماماً كما فعل ترامب قبل سنوات، لكن في الجهة المقابلة من الطيف السياسي، ومع ذلك، فإن فوز ممداني لا يمكن فصله عن السياق الأوسع للأزمة الأميركية.
فالولايات المتحدة التي هجرتها مصانعها إلى الصين والبرازيل وفيتنام وغطاها الصدأ، وتآكلت فيها الطبقة الوسطى، باتت تبحث عن هويتها ومكانتها من جديد، في هذه العملية، خسر الحزبان الكبيران معاً:
فالحزب الديمقراطي فقد قاعدته النقابية العريضة التي كانت عماده منذ «العصر الصناعي»، بينما خسر الحزب الجمهوري «الامتياز الأبيض» الذي كان يمنح التفوق الاجتماعي للرجل الأميركي التقليدي، ومن رماد تلك الخسارتين، ولدت الطفرات السياسية التي نراها اليوم: «الترامبية» في اليمين، و»الممدانية» في يسار الوسط، وكليهما حول الغضب إلى مادة سياسية.
لقد فشل باراك أوباما في ترميم الثقة بين الحزب الديمقراطي وطبقته العاملة، فانزاح الحزب تدريجياً نحو تمثيل الأقليات العرقية واللغوية والجندرية والمثلية، محاولاً عبر ذلك تعويض خسائره الجماهيرية، لكنه زاد بذلك من الانقسام الثقافي داخل المجتمع الأميركي.
وفي المقابل، جاء ترامب بشعاره الشهير «لنجعل أميركا عظيمة من جديد»، والذي حمل في عمقه رسالة أخرى غير معلنة: «لنعِد للرجل الأبيض مجده الضائع».
وهكذا تكرّس الانقسام الأميركي إلى حدٍّ غير مسبوق، ليصبح مشهداً سياسياً مركباً من شعبويات متقابلة، يمينية ويسارية، كلٌّ منها تزعم أنها تُعبّر عن «أمريكا الحقيقية».
لهذا السبب، يخشى ترامب من صعود زهران ممداني، لأنه يُمثّل الوجه الآخر لظاهرتِه؛ فكما أعاد هو تشكيل الحزب الجمهوري على صورته، يخشى أن يُعيد ممداني تشكيل الحزب الديمقراطي تحت جناح اليسار التقدّمي على حساب الوسط المعتدل، وهو ما لا تريده النخبة الديمقراطية التقليدية بقيادة شخصيات مثل تشاك شومر ونانسي بيلوسي.
لقد استطاع ممداني أن يُثبت أن دعم الفلسطينيين لم يعد جريمة سياسية في أميركا، وأن التمويل الشعبيّ يمكن أن ينتصر على نفوذ الشركات واللوبيات الكبرى، لكن التحدي الحقيقي أمامه يبدأ الآن، في مواجهة منظومةٍ سياسيةٍ وماليةٍ متجذّرة: من حاكم نيويورك إلى مجلس الولاية، مروراً بجماعات الضغط الموالية لإسرائيل، ووصولاً إلى الإعلام المحافظ الذي يتربّص به.
ويبقى السؤال الأهم:
هل ما حدث في نيويورك مقدمة لتحولٍ عميق في السياسة الأمريكية، أم مجرد طفرةٍ احتجاجية عابرة تعبّر عن الغضب الشعبي؟
هل تمثّل ظاهرة ممداني بداية ولادة يسار أميركي جديد يُشبه في روحه تجارب أميركا اللاتينية، أم أنها لن تصمد أمام ماكينة السلطة والمال؟
الإجابة ستبقى رهن السنوات القادمة، لكنها في كل الأحوال تشير إلى أن أميركا لم تعد كما كانت، وأن انقسامها الداخلي لم يعد مجرد ظاهرة اجتماعية، بل أصبح قوة سياسية فاعلة تُعيد صياغة المشهد من جديد، والدليل أن عاصمة المال وقلب الرأسمالية، عمدتها اشتراكي، وفي نفس المدينة التي فجرت برجيها القاعدة في الحادي عشر من سبتمبر، يفوز مسلم، هل ثمة مفارقات اكثر من هذه، لتجعلنا نطرح السؤال إلى أين تتجه أميركا؟