نبض البلد -
د. دانا خليل الشلول
لم يكن مشهد افتتاح جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين المعظّم للدورة العادية لمجلس الأمة هذا العام تقليدياً بأيّ مقياس؛ فقد جاء الخطاب الملكي السامي لجلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين المعظّم، وسط ظروف إقليمية استثنائية عصفت بالمنطقة، ليثبت أنَّ الأردن، في كنف قيادته الهاشمية، فلا يزال الأردن نقطة ارتكاز للثبات والوضوح في "زمن الصفر الإقليمي"؛ حيث تتلاشى فيه أي حسابات تقليدية وينهار فيه ميزان القوى القديم؛ فهذا الخطاب، الذي طال انتظاره محليّاً ودوليّاً، تخطى كونه بياناً لسياسات الدولة الداخلية، ليصبح وثيقةً تاريخية ودبلوماسية تعكس العمق الاستراتيجي للموقف الأردني إزاء أخطر القضايا التي تواجه الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية وما يجري في قطاع غزة والضفة الغربية، فقد رسم جلالته، بخطواتٍ ثابتةٍ متزنة وكلمات حاسمة، خارطة طريق واضحة ومضاءة لا يعتريها التباس، ليس فقط للحكومة والبرلمان، بل للشعب الأردني وللعالم أجمع، مؤكداً فيها أنَّ الثوابت الهاشمية لا تخضع للمساومة أو التغير، أو التبديل ، أو التزعزع؛ فيما استهل جلالة الملك عبد الله الثاني خطابه بعباراتٍ قويّة وواثقة؛ تُرسخ المكانة التاريخية والوجدانية للأردن، مذكّراً جلالته الجميع بأنَّ "الأردن يظل قوياً رغم تبدل الأزمات"، وهي مقولة لم تأتِ من فراغ، بل هي خلاصة عقود من الممارسة السياسية والدبلوماسيّة الحكيمة التي مكنّت المملكة الأردنيّة الهاشميّة من العبور عبر أصعب التحديات الحاسمة.
فيما شكّل الموقف الهاشمي تجاه القضيّة الفلسطينية الركيزة الأساسية والأكثر تأثيراً في خطاب العرش لهذه الدورة؛ فلم يكتفِ جلالة الملك عبد الله الثاني بالتنديد اللفظي فقط، بل شدّد على تأكيد دور الأردن بصفته صاحب الإرث بالوصاية الهاشميّة على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وهو الدور الذي يمنح الأردن منذ زمن الإمارة شرعيّةً تاريخية وقوميّة متجذرة للتحدث باسم القدس وأهلها؛ حيث إنَّ هذه الوصاية الهاشمية على مر الزمن والسنين ليست مجرد لقب تشريفي، بل هي ممارسة يوميّة حقيقيّة ثابتة للضغط الدبلوماسي المستميت؛ حيث قاد جلالته سلسلة من التحركات والإجراءات الدولية المكثفة، استخدم فيها كل أدوات الدبلوماسية النشطة؛ فكان التناول الملكي لقضية غزة مباشراً وإنسانياً ومركِّزاً على مسؤولية الأردن التاريخية.
بينما شدد خطاب العرش أيضاً على ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار، وإيصال المساعدات الإنسانية دون عوائق، ورفض أي محاولة للتهجير أو تصفية القضية؛ فهذا الموقف يضع الأردن كـ (قوة ضغط محورية) على الساحة الدولية، متخطياً دور الدولة الجوارية، مؤكداً ومعززاً مكانته كـ (قناة رئيسية للإغاثة الإنسانية) من خلال الجسر الجوي والبري.
وبعين التعمّق والتحليل الإعلامي، فلا يمكن فصل الخطاب الملكي عن قوته الإعلاميّة وتأثيره في الدبلوماسية العامة على محيط واسع.
وهنا، يسعنا القول جازمين أنَّ جلالة الملك عبد الله الثاني يُعدُّ وبجدارة، مايسترو في الاتصال السياسي والإنساني، حيث يتميز خطابه بعدة عناصر جعلته مؤثراً يتجاوز صداه المنطقة إلى العواصم العالمية؛ فقد استخدم الخطاب لغة تخاطب العقول والقلوب، بعبارات موجزة وخالدة الأثر تعزز الثقة الداخلية، مثل تأكيده على "المنعة الأردنية"، كما أنّه وفي ظل الحرب الإعلامية المحتدمة، نجح جلالته في إدارة السردية الوطنية بامتياز، ليصبح الأردن الضابط لإيقاع العقل والاعتدال في المنطقة، وقاد عملية بناء رأي عام دولي متفهم للدور الأردني وتضحياته؛ فقد عملت الدبلوماسية الإعلامية الملكيّة على كسب التعاطف الدولي للقضية الفلسطينية عبر منصات إعلاميّة عالمية، ضامنة وصول الرسالة الهاشمية إلى متخذي القرار والشعوب في الغرب والشرق على حد سواء، ليصبح الخطاب بذلك أداة قوة ناعمة تُثبت مصداقيّة المملكة الأردنيّة الهاشمية في محكمة الرأي العام الدولي.
فكان خطاب جلالة الملك عبد الله الثاني كـ"جدار صلب" في مواجهة السرديات المضادة؛ فقد أثبت جلالته في خطابه صدق الرسالة وعقيدة الثقة؛
إن القوة الإعلامية للخطاب لا تنبع من الكلمات المختارة فحسب، بل من معدن الصدق والموثوقية الذي يُغلف هذه الكلمات؛ ففي ظل حرب سرديات إقليمية محتدمة، حيث أثبت جلالة الملك عبد الله الثاني أن قوة الدولة تبدأ من التحالف الوجداني مع شعبها، فقد كان هذا الخطاب الملكي إلى جدار صلب يُبنى على الشفافية والوضوح السياسي، وهو ما يمكّنه من اكتساح السرديات المضادة التي تحاول تشويه الموقف الأردني، فقد كانت رسالة الثقة الملكية المطلقة هي نواة العبور، وتجلت في عبارته الاستثنائية التي تحقق التوازن الدقيق بين الاعتراف الإنساني والتحدي المصيري: "نعم يقلق الملك لكن لا يخاف إلا الله ولا يهاب شيئاً وفي ظهره أردني". هذا التعبير ليس مجرد تصريح، بل هو ميثاق تعبوي يُحوّل القلق القيادي إلى منعة جماعية؛ فربط الملك ثقته المطلقة بالشعب يُكرّس المواطن عموداً فقرياً للموقف الأردني؛ ولتعزيز هذه الشراكة، عمد جلالته إلى لغة التجذير والاحتواء الوجداني، بوصفه المباشر للشعب: "الأردنيّون والأردنيّات شعبي القريب مني سند الأردن وذخره"؛ هذا التعبير يتجاوز الخطاب الرسمي المعتاد، ليُكرّس الأردنيين والأردنيات شريكاً استراتيجياً وذخراً قومياً لا يُقدّر بثمن، وكأنهم جيش ثانٍ صلب يسند القرار السياسي، حيث يُستكمل هذا البناء للثقة بالإشارة إلى قوة المؤسسات العقائدية كحاضنة لهذا السند الشعبي، كما في قوله: "هنا رجال مصنع الحسين درعاً مهيباً" و قوله "بقي الأردن قوياً يحميه جيش عربي مصطفوي سليل أبطال"؛ هذه النصوص، مجتمعة، تشكل سرديّة وطنيّة متماسكة وموثوقة، تنبع من عقيدة حكم راسخة لا تكتيك طارئ ومُستعجل، مما يضمن ويؤكّد أنَّ الخطاب يصبح مرجعية إعلامية تُبطل مفعول أي محاولة لتشويه الموقف.
وفي الوقت ذاته، لا يقتصر الخطاب الملكي على حدود المملكة الجغرافية، بل ينطلق من رؤية شمولية تربط بشكل عضوي بين مصالح الوطن الداخلية ومصير الدول المجاورة؛ حيث نجح جلالة الملك عبد الله الثاني في تقديم نموذج للقائد الذي يرى أن ازدهار الأردن لا يمكن أن يتحقق في معزل عن استقرار الإقليم؛ وهذا التوجه ليس مجرد موقف عابر، بل هو فلسفة حكم تُترجم إلى سياسات عملية؛ وفي ذلك، يُبرز الخطاب الملكي أنَّ الدفاع عن فلسطين ليس مجرد واجب قومي، بل هو خط دفاع أول عن الأمن الوطني الأردني ذاته، كما يتجاوز الملك دور المتفرّج أو المُستنكر البعيد؛ فهو قائد مبادرات (مثل الممر الإنساني لغزة أو جهود مكافحة التطرف)؛ مما يعكس دور الأردن كشريك فاعل وبنّاء في استقرار المنطقة وليس مجرد دولة متأثرة بها.
أما بالانتقال إلى الشأن الداخلي؛ أظهر الخطاب الملكي أن الأزمات الإقليمية لم تشتت انتباه القيادة عن ضرورة المضي قدماً في الإصلاحات الداخلية العميقة؛ حيث أكد جلالته على أن تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي والإصلاح الإداري ليس خياراً بل إلزاماً تنموياً لتحقيق منعة الدولة؛ وبهذا الشأن حمل الخطاب توجيهاً واضحاً وصارماً للحكومة ومجلس الأمة بضرورة تحويل الخطط إلى مشاريع ملموسة يشعر المواطن بأثرها المباشر في حياته اليومية؛ فهذا الجزء من الخطاب يعكس منهجيّة القيادة كـ"قائد إصلاح" يسعى لتمكين الطبقة الوسطى، ومحاربة الفقر والبطالة، وتحسين مستوى الخدمات العامة، في سياق الإصرار على المضي في التحديث، حتى في ظل تحديات الموازنة والوضع الإقليمي، ليؤكد على الإيمان الراسخ بأن قوة الأردن الداخلية هي الحصن المنيع الذي يحميه من أي تقلبات خارجية.
وفي المحصلة، كان خطاب العرش بمثابة تجديد للعهد بين القائد والشعب ورسم خريطة طريق واضحة المعالم، فخطاب جلالة الملك عبدالله الثاني المعظّم يؤسس لمرحلة تتطلب الوحدة الداخلية والالتزام التام بالإصلاحات، مع الإبقاء على بوصلة الأردن الثابتة تجاه فلسطين والقدس عقيدةً لا استراتيجية ظرفية، وذلك لأنَّ رسالة الملك عبد الله الثاني النهائيّة والثابتة هي أنَّ الأردن قوي بقيادته، وراسخ بموقفه، وعازم على المضي في بناء مستقبله مهما كانت التحديات الإقليمية، فهذه الرسالة تنبع من رؤية قيادية حكيمة تحول التحديات إلى فرص، وتؤكد أن المملكة ستبقى كما كانت دائماً، ركناً للسلام والاستقرار في قلب الشرق الأوسط.