نبض البلد - كتب محسن الشوبكي
في المشهد السوري المتشظي، لا يمكن اختزال التهديد الذي يمثله تنظيم الدولة الإسلامية في علاقة مباشرة مع النظام السوري الجديد أو في فشل السلطة المركزية. فالنشاطات الإرهابية التي ينفذها التنظيم لا تنطلق من مناطق خاضعة لسيطرة الحكومة الانتقالية في دمشق، بل تتغذى من مناطق النفوذ الانفصالية التي تعاني من هشاشة أمنية وتفتقر إلى منظومة ردع متماسكة. داعش لا يعمل في فراغ، بل في بيئة تتسم بتعدد السلطات وتضارب المصالح. مناطق مثل البادية السورية، دير الزور، ومحيط مخيم الهول تُعد مساحات رخوة خارجة عن السيطرة الفعلية لأي جهة موحدة، ما يجعلها بيئة مثالية لتمدد التنظيم. في هذه المناطق، لا يُواجه التنظيم بسلطة مركزية، بل بتشكيلات محلية متباينة، بعضها انفصالي الطابع، ما يخلق فجوات أمنية يستغلها التنظيم بذكاء.
في الجنوب السوري، يستفيد التنظيم من تعقيدات المشهد المحلي، حيث تتقاطع مصالح قوى درزية ذات نزعة انفصالية مع وجود أمني إسرائيلي غير مباشر، إلى جانب نشاط واسع لعصابات تهريب المخدرات العابرة للحدود. هذه البيئة المتشابكة تتيح للتنظيم التسلل عبر شبكات التهريب، وتشكيل خلايا نائمة في مناطق يغيب عنها التنسيق الأمني الفعّال، مما يهدد بتحويل الجنوب إلى ساحة عمليات مرنة ومفتوحة.
أما في الساحل السوري، فقد رصدت تحركات لخلايا تابعة للتنظيم تعمل في الظل ضمن بيئة أمنية معقدة تتداخل فيها مصالح مجموعات محلية مع قوى إقليمية، أبرزها مجموعات مرتبطة بإيران وحزب الله. التنظيم يستغل هذا التداخل لتوسيع نفوذه الاستخباراتي، وتنفيذ عمليات نوعية تستهدف شخصيات عسكرية أو بنى تحتية حساسة، مستفيدًا من الطبيعة الحضرية للمنطقة التي تتيح له التخفي والاختراق دون الحاجة إلى السيطرة الجغرافية.
بعيدًا عن الصورة النمطية لتمويل التنظيم عبر النفط أو الدعم الخارجي، بات داعش يعتمد على اقتصاد غير رسمي متشابك، يشبه إلى حد كبير نماذج التمويل التي تستخدمها قوى انفصالية أخرى في مناطق النزاع حول العالم. من أبرز مصادر التمويل تجارة المخدرات، حيث يستفيد التنظيم من شبكات تهريب الكبتاغون والمخدرات الأخرى التي تمر عبر مناطق غير خاضعة للرقابة، مستفيدًا من ضعف البنية الأمنية والانفصال الجغرافي. كما يعتمد على الابتزاز والزكاة القسرية المفروضة على المجتمعات المحلية، ويستخدم شبكات الحوالة لنقل الأموال إلى المخيمات والسجون، خاصة في شمال شرق سوريا، لدعم عمليات التجنيد والتهريب.
السجون والمخيمات في شمال سوريا، التي تُدار من قبل سلطات غير مركزية، تُعد خزانات بشرية للتنظيم. آلاف المقاتلين المحتجزين، إلى جانب عشرات الآلاف من المدنيين، بينهم آلاف الأطفال، يعيشون في ظروف تُسهل إعادة التجنيد. التنظيم لا يحتاج إلى السيطرة على الأرض بقدر حاجته إلى بيئة تسمح له بالتحرك والتجنيد والتمويل، وهي بيئة توفرها المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة.
إن استمرار التهديد الداعشي لا يرتبط بضعف النظام السوري الجديد، بل بغياب التنسيق بين القوى المحلية والانفصالية التي تتقاسم النفوذ. أي خلل في إدارة البادية أو مرافق الاحتجاز، أو أي تفكك في اتفاقات وقف إطلاق النار، يُعد فرصة ذهبية للتنظيم لإعادة التمدد. فالمشكلة ليست في من يحكم دمشق، بل في من لا يحكم الأطراف.
في ضوء هذه المعطيات، فإن التطورات الحالية قد تتيح لتنظيم الدولة الإسلامية توسيع نطاق فعالياته العملياتية في المرحلة القريبة القادمة، مع مضاعفة عملياته في مختلف المناطق السورية، بما في ذلك الجنوب والساحل، مستفيدًا من الفوضى الأمنية، وتعدد مراكز النفوذ، وتداخل المصالح الإقليمية، وغياب سلطة موحدة قادرة على احتواء هذا التهديد المتجدد.