نبض البلد -
حاتم النعيمات
بعد السابع من أكتوبر، تقف المنطقة أمام استحقاقات لا مجاملة فيها ولا يمكن التعامل معها كما كان في السابق، فقد انتهت -أو ضعفت- قوى حزبية كلاسيكية كانت تسيطر في المنطقة، كحركة الإخوان، والقوميين بكل صنوفهم، وبطبيعة الحال اليسار الذي كان ينتقل بينهما كتحالفات. وجاءت ضربة أذرع إيران وسقوط النظام السوري كضربة قاضية لهذه المشاريع التي تنافست على المنطقة منذ زوال الاحتلال العثماني.
يعتبر الأردن أحد أكثر الدول التي نشطت على أراضيها هذه التيارات، وما زالت الخارطة السياسية فيه تعاني من تبعات ذلك، وهذه المعاناة لها بعدان بتقديري: البعد الأول فكري يخص التصورات السياسية في الذهنية العامة الأردنية عن بلدهم وعن علاقاته الدولية، وكان ذلك نتيجة ارتكاز هذه التيارات على التقليل من شأن الأردن في معظم أفعالها السياسية، أما البعد الثاني لهذه المعاناة، فيظهر في الصعوبات التي تقف في وجه إنشاء الأحزاب الجديدة التي انبثقت عن مشروع الإصلاح السياسي الذي بدأته الدولة قبل بضع سنوات.
نتيجة لكل ذلك، تبدو الحاجة ملحّة لإجراء تبديلات سريعة على الساحة السياسية، تتيح تمثيل التيار الوطني الداعم للمشروع الوطني بروحه الشبابية في المؤسسات الحزبية الناشئة، والمشروع الوطني الأردني واضح لا لُبس فيه -من وجهة نظري- وأركانه هي البناء الاقتصادي القائم على فكرة الاعتماد على الذات، وتعزيز القطاع العام كمنافس للقطاع الخاص (على الأقل)، وتظهير الهوية الوطنية الأردنية كمضاد لمشاريع التصفية والتوطين وكمعزز لعلاقة الأردنيين بأرضهم وتاريخها وكينونتها العريقة.
القصة ليست استغلال الفراغ الذي تركته القوى الإسلامية والقومية واليسارية فحسب، بل في إدراك أن تَركة هذه القوى ثقيلة وتحتاج لعمل شاق، فعند كل أزمة خارجية -على سبيل المثال- نجد أن هناك تفاعلات تتناقض مع مصالح الأردن بشكل واضح، وهذا يعود لتربية سياسية قديمة ترى الأردن بصورة سلبية دائمًا.
لبناء مؤسسة حزبية أردنية محلية واقعية، لا بد من فكرة لامّة قوية تساعد في استقطاب الأغلبية المحايدة لاستكمال مشروع البناء الوطني، فلا يمكن أن تشرح البرامجية الحزبية لمجتمع سياسي اعتاد على "الكبسولات" الأيدولوجية الجاهزة، لذلك، لا مناص من إعادة صياغة حاجات الأردنيين على شكل شعارات جاذبة ليلتف أكبر عدد ممكن حول هذه المؤسسة.
صحيح أن الخارطة السياسية في الدول عادة ما تتشكل تلقائيًا على ضفاف الأحداث الكبرى ولا يمكن استيلادها (بالذات من قبل الدولة)، لكن هذا لا ينطبق بالضرورة على الدول التي تعيش وسط اضطراب دائم، ومحاولات مستمرة للمساس بهويتها من الداخل والخارج. لذلك، علينا في الأردن العمل على تعزيز الروابط داخل الجسم الحزبي الجديد، وتمكينه من خوض تجربة انتخابية طبيعية تفرز الأقوى وتُصحّح المسار. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال وعي جماعي بالأخطار المحدقة، واتفاق وطني صادق على أن الدولة الأردنية، بهويتها وخصوصيتها، هي الدرع الأول في مواجهة القادم.
المشروع الحزبي الأردني في بداياته، ومن الطبيعي أن يواجه مشكلات، لكن هناك لحظة فارقة قد تسرّع مراحل نمو هذا المشروع وهي لحظة إدراك المهتمين بالشأن العام في الأردن أن التصورات الكلاسيكية للعمل الحزبي يجب أن تنتهي، وأن هذا البلد فيه الكثير من القضايا الحادة التي يمكن تحويلها إلى أفكار لامّة تؤسس لحزبية راسخة، فلا يختلف إثنان على مشاكل الإدارة المحلية في الأردن مثلًا، أو على المشكلة الاقتصادية، والتهديدات التي تحيط بنا.
أعتقد أننا أمام فرصة تاريخية لا بد من استغلالها، لأن هذا البلد أبهر الجميع بصموده، وعلينا أن نبني على هذا الصمود ليتحول إلى مناعة طبيعية تمنحنا القدرة على خلق الرفاه وتحصيل نهضة تليق بنا وبتاريخنا وتضحياتنا.