نبض البلد - د. خالد العاص
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، برز الأردن بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني كصوتٍ عربيٍّ واضحٍ وثابتٍ في الدفاع عن القضية الفلسطينية، رافضًا تحويل الحرب إلى مسار لتصفية سياسية أو فرض وقائع جديدة على الأرض. لقد اتخذ الموقف الأردني طابعًا مبدئيًا متجذرًا في التاريخ الهاشمي، إذ لم يكن الانحياز للفلسطينيين موقفًا عاطفيًا، بل خيارًا استراتيجيًا وطنيًا نابعًا من إدراكٍ عميقٍ بأن استقرار المنطقة بأسرها يبدأ من فلسطين.
منذ الساعات الأولى للحرب، أطلق جلالة الملك تحركًا دبلوماسيًا واسع النطاق شمل الأمم المتحدة والعواصم الغربية والعربية المؤثرة. لم يكن هذا التحرك ردّ فعل آنياً، بل جزءًا من رؤية متكاملة تُصر على أن جوهر الصراع لم يبدأ في السابع من تشرين الأول، بل هو نتيجة عقود من الاحتلال وغياب العدالة الدولية. في جميع خطاباته، شدّد الملك على أن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، هو الطريق الوحيد لتحقيق السلام الدائم، وأن "لا أمن ولا استقرار في المنطقة دون عدالة للفلسطينيين".
في السياق ذاته، تحركت الدبلوماسية الأردنية بتناغمٍ كامل مع الرؤية الملكية. فقد لعبت وزارة الخارجية الأردنية دورًا محوريًا في نقل الرواية الفلسطينية إلى المنصات الدولية، وفي صياغة خطابٍ عقلاني يجمع بين الشرعية الدولية والموقف الإنساني. وقد ساهمت هذه الجهود في خلق رأي عام عالمي متعاطف مع المدنيين في غزة، ومُطالب بوقف العدوان ورفع الحصار.
لكن الدور الأردني لم يقتصر على السياسة، بل امتد إلى الميدان الإنساني. فبينما كانت أصوات المدافع تعلو في غزة، كانت طائرات سلاح الجو الأردني تنفذ عمليات إنزال جوي للمساعدات في عمق القطاع، في وقتٍ لم يجرؤ فيه كثيرون على فعل ذلك. كما واصلت الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية إرسال القوافل الإغاثية، ونقل آلاف الأطنان من المواد الغذائية والطبية عبر الجسر البري، إضافة إلى استمرار عمل المستشفيات الميدانية الأردنية داخل القطاع رغم المخاطر.
هذا التحرك المتكامل -السياسي والإنساني معًا- جعل من الأردن مركز توازن في لحظة فوضى إقليمية. فبينما انقسمت المواقف العربية بين الحذر والتردد، اختار الأردن أن يكون صريحًا في خطابه، وأن يستخدم ثقله الدبلوماسي في واشنطن وأوروبا والعواصم العربية لتثبيت المبدأ: "لا حل عسكريًا للصراع، ولا أمن بدون دولة فلسطينية مستقلة".
لقد أثبتت الأزمة أن جلالة الملك عبدالله الثاني لا يتحرك ضمن حسابات آنية أو شعبوية، بل وفق رؤية استراتيجية تعتبر أن استقرار غزة هو جزء من الأمن الوطني الأردني. فالأردن لا يرى في فلسطين قضية "جيران"، بل قضية تلامس عمقه الجغرافي والسياسي والاجتماعي. ومن هنا فإن جهوده لم تكن مجاملة لأحد، بل دفاعًا عن استقرار الإقليم وعن مستقبل الأردن ذاته.
في المحصلة، يمكن القول إن الموقف الأردني بقيادته الهاشمية جسّد مدرسة في السياسة الخارجية تقوم على ثلاث ركائز: الثبات على المبدأ، التحرك الدبلوماسي الذكي، والبعد الإنساني الفاعل .وبفضل هذا النهج، أصبح صوت الأردن اليوم أحد أكثر الأصوات العربية تأثيرًا في الدفاع عن الفلسطينيين، ليس فقط في ساحات الحرب، بل في معركة الوعي العالمي حول العدالة والحرية.