عندما قال ترامب "الجميع عاد يحب إسرائيل".

نبض البلد -

حاتم النعيمات


بعد توقّف العدوان على غزة ضمن ما بات يُعرف بـ”خطة ترامب” للسلام، خرج الرئيس الأمريكي بتصريح لافت قال فيه: "الجميع عاد يحب إسرائيل”، ربما يعتقد البعض أن هذه العبارة قيلت في معرض المجاملة، لكنها تحمل في طياتها اعتراف مبطّن بأن إسرائيل كانت قد فقدت الكثير من مكانتها الدولية بعدما تمردت حكومتها اليمينية على كل الضوابط.

يبدو أن ترامب قد أدرك بعقليته التجارية البحتة، أن سلوك بنيامين نتنياهو وسياسته المتهوّرة جعلت إسرائيل عبئاً على الولايات المتحدة، وأن استمرار الحرب تحت عنوان مصالح نتنياهو الفردية سيكون كارثة إذا امتدت لفترة أطول.

في المقابل، لا يمكن تجاهل أن تعنّت حركة حماس قد وضع الموقف العربي في زاوية حرجة، وجعل التنسيق العربي يقبل بالحد الأدنى من الضمانات فقط لوقف الحرب الكارثية، فالموقف العربي حاول أن يتعامل مع الوقائع لا الشعارات، ومع الكلفة الإنسانية قبل المكاسب السياسية، وهنا تحديداً فقدت القضية الفلسطينية جزءاً من زخمها، لأن اليمين الإسرائيلي المتغطرس واليمين الفلسطيني حرفا القضية من مسار حل الدولتين إلى مسار مجابهة التهجير الطوعي وإعادة الإعمار وإعادة الألق لفكرة مقاومة الاحتلال نفسها.

نحن اليوم أمام مستقبل مجهول لغزة، وربما للقضية الفلسطينية بأكملها، فالاتفاق الذي أوقف الحرب، وما يجري تحت الطاولة من تفاهمات اقتصادية، يفتح الباب أمام مرحلة جديدة يرى فيها ترامب ومستشاروه أن "الازدهار الاقتصادي” يمكن أن يكون بديلاً عن الحقوق السياسية وهذه مشكلة، فلا يمكن أن يختزل الصراع التاريخي في "صفقة أعمال” تعيد توزيع الأدوار لا الحقوق باستغلال الحالة الكارثية التي يعيشها الفلسطيني. وبهذا المعنى، تتحول غزة والضفة إلى ريشة في هواء التصورات الأمريكية الجديدة، التي قد تجرّ المنطقة نحو تسوية ناقصة تسكّن المشكلات لحظيًا ولا تحلها.

صحيح أن بعض الدول العربية خرجت من هذه الجولة بمكاسب ملموسة في علاقتها مع واشنطن، سواء على مستوى القدرة على صياغة موقف جماعي قوي وعلى مستوى ضرب الرواية الإسرائيلية، لكن هذه المكاسب لا تصبح مستدامة إلا إذا وُضعت ضمن إطار عربي موحّد للمصالح مع الولايات المتحدة؛ فالعلاقة الفردية لا تصنع قوة، بينما "سلة المصالح المشتركة” هي وحدها الكفيلة بأن تضمن التوازن في أي تفاوض قادم، وتمنع تحوّل المنطقة إلى ملعب تتصارع فيه القوى الكبرى دون رؤية عربية جامعة.

الفراغ السياسي الذي يلفّ المنطقة اليوم بعد تراجع أذرع إيران الإقليمية وضعف جماعة الإخوان المسلمين يجب أن يُملأ بمشاريع وطنية عقلانية تُراعي الدولة وتُطوّر المجتمع، لأن العقلية العربية جاهزة لتقبل الشعاراتية أكثر من البرامجية، بالتالي، لا بد من مشاريع في الدول العربية تنتج العقل الناقد القادر على مواجهة مثل تلك المغامرات التي قادتها مليشيات تابعة لمشاريع.

لقد أظهرت هذه الحرب أن المنطقة لم تعد تحتمل الجنون الأيديولوجي وأن الدولة الوطنية، بمؤسساتها وتوازناتها، هي الإطار الوحيد القادر على حماية الشعوب وصناعة الاستقرار، فالقصور التنموي والاقتصادي والعلمي هو من سمح لهذه الجماعات بخطف العقل الجمعي في المنطقة، ووصلنا إلى مفاوضات على البقاء على قيد الحياة لا أكثر.

ما حدث منذ انطلاقة ما سمي بالربيع العربي وصولًا إلى السابع من أكتوبر هو درس كبير وعميق لشعوب المنطقة وحكوماتها، ولا مناص في النهاية من مواجهة الواقع بمحاصرة أي طرف يخرج عن إطار الدولة الوطنية مهما كلف الأمر.