نبض البلد -
حاتم النعيمات
لم تأت خطة ترامب لإنهاء الحرب في غزة لإنقاذ ما تبقّى من ماء وجه إسرائيل فقط، بل كشفت أيضًا عن واقع إسرائيلي داخلي يزداد تعقيدًا، فالصحافة الإسرائيلية لم تتعامل معها على أنها هدية من السماء، بل كاختبار لقدرة الدولة على التكيّف مع تحوّلات داخلية وإقليمية ودولية عميقة.
من يقرأ الصحف العبرية (هآرتس ويديعوت أحرونوت ومعاريف) يجد نمطًا متكررًا يفيد بأن هناك نظرة للخطة كفرصة محدودة للخروج من مأزق تصدّع العلاقات مع معظم دول العالم، لكنها في الوقت ذاته تضع إسرائيل أمام استحقاقات صعبة قد تغير شكل الخارطة السياسية هناك (ضعف اليمين وصعود الوسط وربما اليسار). فبعض المقالات المنشورة تذكّر القراء بأن أي اتفاق حقيقي يعني عمليًا بداية لمرحلة تفاوض مع الفلسطينيين على عناوين مثل الدولة الفلسطينية، خصوصًا بعدما استنزف نتنياهو كل "الذروات" في سلوكه مع عدة جبهات. آخرون حذروا من أن نتنياهو قد يستخدم جبهة جديدة (إيران مرجّحة بقوة) لشراء الوقت داخليًا، مع علمه وعلمهم أن الخسائر في رواية "المظلمية الإسرائيلية" تتراكم.
الشارع الإسرائيلي بدأ يعكس كل هذه الآراء فقد تجمّع آلاف الإسرائيليين في تل أبيب للضغط على نتنياهو لإنهاء الحرب واستعادة الرهائن، وعلى ما يبدو أن هؤلاء المتظاهرين ليسوا مجرد "يسار ليبرالي” كما يحلو لبعض اليمينيين أن يصنّفوهم، بل هم طيف اجتماعي واسع يضمّ يمينيين ووسطًا ويسارًا، يوحدهم الشعور برغبة في التغيير.
نتنياهو، الذي بُنيت صورته السياسية على كونه رجل أمن ورجل إدارة أزمات، يجد نفسه اليوم محاصرًا بين ضغوط متناقضة. من جهة، حلفاؤه في اليمين المتطرف الذين يرفضون أي تنازل سياسي أو أي إشارة للتفاوض مع الفلسطينيين، ومن جهة أخرى، رأي عام داخلي يطالب بالصفقة ويحمّله مسؤولية تأخيرها، ومن جهة ثالثة، ضغط دولي متزايد يطالبه بالالتزام بقواعد اللعبة التي صاغتها الخطة الأميركية.
هذا الثالوث المكون من الضغط الداخلي، وضغط الحلفاء، والضغط الخارجي، قد يغيّر ملامح المرحلة المقبلة في إسرائيل. ففي الكنيست، بدأ بعض السياسيين، حتى داخل معسكر نتنياهو، بالتساؤل علنًا: هل حان وقت تغيير المسار أو تغيير القيادة؟ وبدأت المعارضة بقيادة يائير لابيد بإنشاء منتدى دائم يدعى "منتدى قادة الأحزاب" وظيفته تنفيذ مراجعة شاملة لوضع لجنة متخصصة تُعهد إليها مهمة رسم المبادئ الأساسية للحكومات القادمة. وقد نقلت أيضًا مصادر في حزب الليكود مخاوفها من أن استمرار الحرب بلا إنجاز حاسم قد يفتح الباب أمام انتخابات مبكرة.
لكن ومع كل ذلك، لا يزال نتنياهو يملك القدرة على المناورة، من خلال تحويل موافقته عليها إلى انتصار يرتكز على استعادة الرهائن، ونزع سلاح حماس، والبقاء العسكري في القطاع، والأخيرة فيها لعب على الوقت، فالخطة تتحدث عن انسحاب تدريجي شبه كامل، فالمفاوضات ما زالت مستمرة على المنطقة العازلة التي تتمسك بها إسرائيل.
اللافت أن الخطة الأميركية لم تحلحل التصلُّب السياسي داخل إسرائيل فقط، بل أعادت فتح النقاش حول جدوى مرحلة ما بعد إسحاق رابين (رجل السلام في إسرائيل) برمتها، والفكرة أن فداحة ما حدث خلال العامين الأخيرين قد تعيد خيار السلام إلى الطاولة، خصوصًا بعد أن أصبح الدعم الأمريكي مشروطًا، وبعد أن استطاعت الدول العربية وضع مصالح أمريكا معها بالجملة على الطاولة (قمة نيويورك الأخيرة).
في نهاية المطاف، لا يمكن قراءة المشهد الإسرائيلي إلا من خلال وضعها الإقليمي والدولي، فإسرائيل في المحصلة كيان يعيش بين أعداء؛ بالتالي فإن ظهيره الدولي (وخصوصًا الأمريكي) مهم بطريقة مضاعفة مقارنة بأي دولة أخرى، لذلك فإن زجر ترامب لنتنياهو، ليس مجرد موقف عابر، بل تراكمات بدأت منذ عهد أوباما ووصلت إلى مرحلة يُسأل فيها اليوم داخل واشنطن وعواصم أوروبا عن جدوى هذا الدعم المطلق لإسرائيل.