نبض البلد -
حاتم النعيمات
يعيش أكثر من مليوني إنسان في غزة اليوم بين فكي الموت والجوع والعطش والتهجير. المشهد أكبر من أن يوصف بالكلمات، والكارثة أعمق من أن تُخفى خلف عبارات دبلوماسية أو مجاملات، ما يحدث الآن ليس مجرد أزمة عابرة، بل هو أخطر ما واجهه الفلسطيني وغزة والقضية الفلسطينية بأكملها في تاريخها الحديث.
في البداية، لا بد أن نتفق على حقيقة أساسية وهي أن الاحتلال الإسرائيلي ليس كغيره من الاحتلالات عبر التاريخ؛ فهو لم يكتفِ بالسيطرة العسكرية، بل جاء ليقيم دولة على أنقاض شعب كامل، وليحلّ مكانه. لهذا فإن مواجهته أعقد بكثير من أي احتلال آخر ( كالفرنسي في الجزائر، والأمريكي في ڤيتنام )، وتحتاج هذه المواجهة إلى رؤية طويلة الأمد وإستراتيجية مدروسة، خاصة وأنه يحظى بدعم أقوى قوة في العالم. صحيح أن المقاومة المسلحة جزء من المواجهة، لكنها ليست كل القصة فالثبات على الأرض، والصمود، والتماسك الاجتماعي، تُعد من أقوى أشكال المقاومة، لأننا أمام احتلال إحلالي عنصري يريد اقتلاع الشعب من جذوره. ومن هنا، يصبح من حق كل إنسان يتأثر بما يجري في فلسطين أن يسأل بصدق عن جدوى ما حدث وما يحدث.
بالاستناد إلى ذلك كله، لا أعتقد أن من حق حماس إحتكار فكرة المقاومة لنفسها ولا بحسب وجهة نظرها، بالتالي فهي لا تملك أيضًا أن تفرض على أركان المشهد الفلسطيني الحرب دون تشاور، ولا يحق بالنتيجة لأتباعها أن يفرضوا على الفضاء العام نظريتها في التحرر وكأنها مقدّس لا يجب نقاشه، ولنتذكر جميعًا أن حماس ساهمت بشكل رئيسي في تعطيل أي عمل سلمي منذ أوسلو بعمليات خارجة عن التوافق الفلسطيني، ومن ثم كانت عنصر في الإنقسام الفلسطيني الذي أدى إلى استفراد "إسرائيل" بالقطاع بهذا الشكل الذي ترونه اليوم.
في المحصلة، أصبح من حق أهل غزة والعالم كله أن يسألون السؤال التالي: ما الذي يتم التفاوض عليه بين حماس وإسرائيل اليوم؟ وأقصد السؤال هنا عن مستوى الندية التفاوضية بين الطرفين، فلا يمكن أن تنتقل حماس من أهداف مثل تبييض السجون وتحرير فلسطين والقدس إلى التفاوض على إدخال المساعدات ويطلب من الفلسطيني ألا يسأل!!
من يقرأ مجريات المفاوضات بعقل ناقد يفهم أن مصير غزة وسكانها حُسم منذ شهور للأسف، لذلك فالتفاوض اليوم حسب ما أرى يقتصر على مصير حماس نفسها لا على مصير ملايين الجوعى والمكلومين، ويمكن التماس هذا الاستنتاج من رد فعل الغزيين أنفسهم.
المُذهل أن طول أمد المفاوضات يقدم خدمة العُمر لنتنياهو، ومع ذلك فإن المفاوض الحمساوي يبدو انه لا يدرك ذلك!.
وعندما تعجز حماس عن تسويق موقفها، تعود إلى لعبتها القديمة وهي شيطنة مصر والأردن وتحميلهما وزر الكارثة!!
إن هذا الاستهداف للأردن ومصر لم يعد يلقى آذانًا صاغية، لا عربيًا ولا دوليًا ولا في غزة نفسها، فالدور الأردني والمصري لطالما شكّلا رمانة الميزان في القضية الفلسطينية، ولو لقي الطرح الأردني والمصري تاريخيًا آذانًا صاغية من قِبل السياسي الفلسطيني لما وصلنا إلى هذا الوضع. لذلك، فإن استدعاء نظرية "الخيانة” كلما ضاقت الخيارات تحوَّل إلى عبث لا فائدة منه.
قد تكون الحرب حسمت بالدمار للأسف، فحماس تطالب اليوم بإدخال المساعدات والبقاء "بأي شكل" في السُّلطة أو تأمين خروج آمن، ونتنياهو يفتح صفحة جديدة من المغازلة لإدارة ترامب، ليعرض غزة كمنطقة استثمار على الرئيس الأمريكي في سياق مواجهة مشروع النقل الصيني المسمى "الحزام والطريق". وقد يكون هذا الطرح مجرد مناورة من نتنياهو كصفقة القرن، لكنه بالتأكيد يعكس رغبة إسرائيلية للبناء على مكاسب الحرب.
إذن، كلما طال أمد تصلّب حماس غير المجدي، كلما ازدادت فرص تسويق مثل هذه المشاريع المشبوهة.
المنطق يقول إن إنهاء الاحتلال (خصوصًا هذا النوع) لا يتم بجولة واحدة، ولا على يد فصيل واحد، ولا عبر قرار منفرد يؤخذ دون مشاورة القوى الوطنية أو تقييم الكلفة على مستوى حياة الناس وقضيتهم. لذلك فإن المطلوب الآن من حماس أن تتنازل عن هذه الجولة، حفاظًا على ما تبقى من القضية وفكرة المقاومة في الذهنية الفلسطينية، وإذا استمر تعنُّت حماس في ظل هذا الوضع فإن ذلك قد يعني أنها لا تدرك خطورة الوضع أو غير مهتمة بمصير الناس والقضية برمتها، وكلا الاحتمالين كارثة. وقد آن لحماس أن تقرأ المعادلة بعيون المصلحة الفلسطينية، لا بعيون التنظيم المرتبط بدول إقليمية.
لا يوجد طرف معفي من المسؤولية، لا من قَصف وجوَّع، ولا من تنازل عن مبادىء حقوق الإنسان، ولا من راهن على عدد الشهداء ومستويات الجوع والدمار كأوراق ضغط تفاوضية. لذلك فمن الضروري باعتقادي البسيط أن يقوم الوسيطان المصري والقطري قبل كل شيء بحسم تناقضاتهما البينية في وجهات النظر (التناقضات واضحة الخطاب الإعلامي لكلا الدولتين)، فلا يمكن أن يستمر هذا التناقض بينهما وننتظر نتائج إيجابية في المفاوضات، لأن مهمتهما يجب أن تتجاوز الوساطة إلى الفعل بحيث يتم سحب ملف التفاوض من حماس لإنهاء حالة الدمار.
في النهاية، لا بد من اعتماد رأي أهل غزة وعدم التشويش عليه كما تفعل بعض الجهات الإعلامية، فهم الحلقة الأضعف، والطرف الأكثر تضررًا مما يجرى منذ ما يقارب العامين.