خلدون خالد الشقران
في زمنٍ صمتت فيه كثيرٌ من العواصم، وابتلعت أنظمتها ألسنتها أمام المجازر اليومية في غزة، يخرج الأردن ليؤكد أن الضمير العربي لم يُدفن بعد، وأن الموقف لا يُقاس بحجم الدولة، بل بحجم إرادتها. الإعلان الرسمي عن تقديم الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية مساعدات إنسانية إلى غزة بقيمة 335 مليون دولار منذ بدء العدوان الإسرائيلي، ليس مجرد رقم مالي، بل هو موقف سياسي بامتياز، ورسالة مباشرة إلى العالم: الأردن لن يصمت، ولن يقف على الحياد أمام جريمة مستمرة ضد الإنسانية.
ما يجري ليس فقط حملة إغاثة، إنها مواجهة أخلاقية مع منظومة دولية متواطئة، وعاجزة عن وقف نزيف الأطفال والنساء في القطاع المحاصر، في الوقت الذي تُغلق فيه المعابر، وتُمنع قوافل الإغاثة من الدخول، يصرّ الأردن على اقتحام خطوط النار عبر قوافل برية وجسر جوي، مدفوعًا بتوجيهات ملكية واضحة لا تقبل التأويل: غزة أمانة.
185 قافلة برية، 53 طائرة شحن، أكثر من 100 طلعة بالطائرات العمودية، و111 ألف طن من المساعدات التي وصلت فعلًا إلى الداخل الغزّي. ليست هذه أرقامًا بروتوكولية للزينة، بل حقائق ميدانية تؤكد أن التحرك الأردني لم يكن استعراضيًا، بل ممنهجًا ومدروسًا، رغم العراقيل الإسرائيلية المتعمدة على المعابر، والتضييق اللوجستي الذي لا يمكن قراءته إلا كجزء من سياسة الاحتلال في تعطيش غزة وتجويعها.
في عمق هذا المشهد، لا بد من الإشارة إلى ما هو أبعد من الجغرافيا والحدود ، فالدور الأردني في غزة ليس نابعًا من حسابات سياسية ضيقة، بل من عقيدة وطنية ثابتة تعتبر فلسطين امتدادًا طبيعيًا للأمن القومي الأردني. هذه المعادلة يفهمها الداخل والخارج: كل طلعة جوية أردنية فوق سماء غزة هي رسالة سيادية، وكل وجبة غذائية تدخل إلى بيت غزّي محاصر، هي صفعة على وجه العالم المتفرج.
المملكة لم تكتفِ بإرسال الطحين والدواء، بل أرسلت مستشفياتها الميدانية، وجرّاحيها، وطواقمها الطبية، بل استقبلت الجرحى والمصابين واحتضنتهم كما لو أنهم أبناؤها. أكثر من 36 ألف عملية جراحية، ونصف مليون مراجع، وأطراف صناعية وزعت ضمن مبادرة "استعادة الأمل”، كلها مشاهد لا يمكن اختزالها في عبارات دبلوماسية أو بيانات صحفية باردة.
ورغم كل هذا، تخرج أصوات مشبوهة تتهم الأردن والحقيقة أن من يطلق هذه الادعاءات، إما جاهل بطبيعة الجسر الإنساني الأردني، أو متعمّد لتشويه صورة دولة لم ترفع شعارًا إلا ومارسته ميدانيًا. الأردن لا يتاجر بغزة، ولا يزايد باسمها، بل يدفع من رصيده المالي والسياسي والدبلوماسي دفاعًا عن حقها بالحياة.
في هذا المشهد الصعب، يقف الأردن وحيدًا تقريبًا في خندق الدعم الحقيقي، لا بالكلام بل بالفعل. عواصم كثيرة اكتفت بالبيانات، وبعضها تورّط في خنادق التطبيع، بينما ظلّت عمّان تُحمّل شاحناتها بالمساعدات، وتُحمّل ضميرها بمسؤولية الوقوف إلى جانب أشقاء يقصفون ليلًا نهارًا.
اليوم، حين نقول إن الأردن قدّم 335 مليون دولار مساعدات لغزة، فإننا لا نقرأ أرقامًا، بل نقرأ موقفًا. نقرأ سيادة، نقرأ قيادةً تدرك أن الصمت خيانة، وأن الكلمة لا تعني شيئًا إن لم تترجم إلى فعل ، ومن لا يرى في هذه الحملة موقفًا وطنيًا وسياسيًا وإنسانيًا شاملًا، فهو إمّا أعمى البصيرة، أو منغمس في لعبة الاصطفافات الدولية.
غزة لا تنتظر خطبًا، بل أفعالًا. والأردن أثبت أنه حين تذبل الكلمات، يبقى الفعل وحده من يتكلم، فليشهد العالم، أن من بين ركام الخذلان، هناك من لا يزال يصنع فرقًا.