نبض البلد -
حاتم النعيمات
بعد السابع من أكتوبر، تم -للأسف- وضع فكرة المقاومة على طاولة النقاش رغم أنها من المُسلّمات والثوابت التي اتفقت البشرية عليها بوصفها رد فعل طبيعي جوهره الدفاع المُجرّد عن النفس.
النقاش العام أخذ منعطفًا غير مسبوق، إذ بدأ الانقسام، ليس فقط على مستوى الدول بل حتى في الشارع العربي، والكارثة أنه ينتشر بين الفلسطينيين أنفسهم.
هذا الانقسام لم يأتِ من فراغ، فقد تم ربط مفهوم المقاومة من قبل بعض الجهات في الذهنية العامة بالفوضى والمغامرة، فتحول تعريفها من عمل منظم ذكي يقوم على تكتيك سياسي وعسكري محسوب، إلى تهور ومقامرة بحياة الناس وبتصوراتهم عن العلاقة مع المحتل.
أحد أشكال العطب الذي أصاب مفهوم المقاومة أيضًا هو لوم الآخر الداعم وتحميله ذنب الإخفاقات واتهامه بدعم الاحتلال زورًا وبهتانًا، كما تفعل حماس وجمهورها مع الأردن ومصر، وهذا انحراف خطير تم تجذيره في ذهنية الكثيرين للأسف، فأصبحت ترى -على سبيل المثال- تيارًا سياسيًا كالإخوان المسلمين (فرع إسرائيل) يتحصّل على تصريح من حكومة نتنياهو المجرمة لتنفيذ اعتصام أمام السفارة المصرية في تل أبيب (!!)، وأصبحت ترى هجمات ضد السفارة الأردنية في كندا وبلجيكا وبريطانيا والولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية الصديقة والداعمة لإسرائيل، وكأن الطائرات الأردنية هي التي تقصف وتقتل(!!).
الغاية من هذا الطرح هو إصلاح ما تضرر من مفهوم مقدَّس نبيل يعبِّر عن حق أصيل للشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى أن المقاومة الحقيقية الوطنية العاقلة هي مصلحة أردنية أيضًا؛ لذلك فأنا لا أقول إن المقاومة كفكرة انتهت أبدًا، فالشعب الفلسطيني الموجود تحت المعاناة في الميدان حي، ولن يستسلم مهما كان.
ما أطالب به يصب في الأمل أن يفتح السياسيون والمثقفون الفلسطينيون نقاشًا عامًا جادًا، يعيد بناء رؤية التحرير التي تهشمت بفعل الطيش الأيديولوجي الذي أفضى إلى الوضع الحالي، نقاشًا يسعى إلى إعادة ترتيب أولويات الفعل المقاوم ليكون وطنيًا نقيًا، لا تائهًا بين الشعارات والانفعالات ومصالح الدول.
على مقياس أوسع، فأعتقد أننا بحاجة لتأصيل جديد لجذر القضية الفلسطينية في ضوء كل هذه التحولات لوقايتها من الخطف في المستقبل، وذلك بتعزيز الجانب الحقوقي فيها، لا اعتبارها قضية دينية فقط. فالاحتلال الإسرائيلي استفاد كثيرًا من جرّ الجميع إلى صراع لاهوتي استطاع من خلاله أن يسوِّق خرافاته التوراتية ليثبت كذبة أحقيته بالأرض على حساب الواقع، وللأسف، فإن تنظيمات الإسلام السياسي تقوم بتثبيت صورة هذا الصراع عن أنه ديني فقط مع إهمال للجانب الحقوقي، وقد عبر قادة هذه التنظيمات عن ذلك عمليًا وشفاهيًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا التعريف للقضية سمح لدولة تبعد 1600 كم مثل إيران أن تدخل إلى ساحة فلسطين من أوسع أبوابها، وأن تضع دماء الأشقاء على طاولة المفاوضات النووية لمجرّد أن اسمها الجمهورية الإسلامية.
وبعيدًا عن الأدلجة، لا بد من مراجعة عميقة للخارطة السياسية الفلسطينية، خصوصًا ونحن ندخل على الأغلب إلى مرحلة ما بعد الإسلام السياسي في فلسطين. إذ لا بد من إيجاد ردع مقاوم ذكي وعقلاني، بأهداف ودوافع فلسطينية خالصة ومبنية على أساس حقوقي ووطني، لا تُستثمر ولا تُباع، ولا تتكئ على حسابات دول تسعى لتسديد فواتيرها على حساب أهل الأرض.
إن تعزيز العلاقة مع الأردن ومصر ودول الخليج بات ضرورة استراتيجية لفلسطين، وهذا ما عبّرت عنه القيادة الفلسطينية في بيان يستنكر تحريض حماس ضد هذه الدول، وهذا -بالمناسبة- مؤشر وعي مستقر وإدراك راسخ للتغيرات من قبل السلطة الوطنية في رام الله؛ فهذه الدول (مصر والأردن) لم تتاجر يومًا بالقضية، ولم ترسل سلاحًا متوسطًا لفصيل بعينه كي يستثير آلة الحرب الإسرائيلية الأمريكية ضد الأبرياء. بالعكس، ظلت هذه الدول ثابتة على الضغط الدبلوماسي لمطلب الدولة الفلسطينية ودعم صمود شعبها على الأرض، وقد أثبتت النتائج حسن نية هذه الدول وفاعلية إجراءاتها وسوء نية من روَّج للشعارات الفارغة والمغامرات.
وأخيرًا، نحن أمام عملية "فلترة” سياسية جارفة في فلسطين والمنطقة، بالتالي فنحن أيضًا أمام فرصة تاريخية لتعزيز قوة التنسيق العربي لضبط المشهد، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه والوقاية من تكرار ما حدث. فإما أن نبني منظومة فلسطينية وعربية جديدة، أو نترك الفراغ لآخرين، لا يرون في فلسطين سوى ورقة في لعبة أكبر.