منصور البواريد يكتب: صدمة الوجود، وثقل الفراغ

نبض البلد -
منصور البواريد يكتب: صدمة الوجود، وثقل الفراغ

في قلب زوبعةٍ جيواستراتيجية تتسارع فيها التحولات وتتقاطع فيها المصالح، تقف إيران اليوم أمام مفترق تاريخي لم يعد بالإمكان تجاهله. ما بين خيارَي إعادة ضبط النظام القائم، أو تصفيته كليًّا وإعادة تشكيله بما يخدم مصالحها في الداخل والخارج، يتحرك القرار الإيراني في حقل ألغام معقَّد، يتداخل فيه الأمن بالهوية، والدين بالسلطة، والتاريخ بالمستقبل.
الرسائل الضمنية لهذا المفترق لا تقتصر على الداخل الإيراني فقط، بل تتجاوز حدود الجغرافيا لتصل إلى عمق النظام الإقليمي برمَّته. فإيران لا تعيد التفكير في نظامها بمعزل عن الحسابات الدولية والإقليمية، بل تفعل ذلك وهي تراقب انفراط المعايير القديمة في العلاقات الدولية، وتبحث عن موقع جديد لها في لحظة عالمية ما بعد أمريكية، تتشكل فيها خرائط القوة على نحو مضطرب، إعادة الضبط هنا لا تعني إصلاحات تجميلية، بل مسعى لإعادة تموضع سياسي مؤسسي، يُنقذ ما يمكن إنقاذه من شرعية النظام، ويستجيب لضغوط الشارع المتراكمة منذ سنوات، دون الانزلاق نحو انكشاف كامل قد تستثمره قوى خارجية لإعادة تدوير الداخل الإيراني على طريقتها.
لكن الخيار الثاني، تصفية النظام وإعادة تشكيله، يشي بأكثر من مجرد انهيار منظومة أو استبدال نخبة، إنَّه يحمل في طياته تصورًا جديدًا للهوية السياسية الإيرانية، وتحولًا في طبيعة الدولة من نظام مؤدلج يوازن بين المذهبية والبراغماتية، إلى نظام وظيفي أكثر مرونة وأقل إيديولوجية، يركز على النفوذ بدل الثورة، وعلى البقاء بدل المبدأ. هذا التحول، إن حدث، لن يكون فعلًا داخليًّا خالصًا، بل نتيجة تفاعل مع القوى الكبرى، وهم: الصين وروسيا من جهة، وأمريكا وإسرائيل من جهة أخرى، ولكل منها تصور لما ينبغي أن تكون عليه إيران "المناسبة" للقرن الحادي والعشرين.
غير أنَّ المشهد لا يكتمل دون التوقف عند الدور الإسرائيلي الذي بات أكثر وضوحًا وجرأة. فإسرائيل، في سعيها لتحجيم العمق الاستراتيجي الإيراني، لا تكتفي بتوجيه ضربات تقنية أو عسكرية تقليدية، بل تسعى إلى خلق أجواء مشحونة بالسلبية داخل إيران نفسها، عبر ضرب أعصاب الدولة الإيرانية من الداخل، فهي تضرب المنشآت الاقتصادية، والبنى التحتية الحساسة، ومؤخرًا استهداف سجن إيفين الشهير، الذي يُحتجز فيه أبرز المعارضين السياسيين، في خطوة تُفسَّر على أنَّها محاولة لدفع المجتمع الإيراني نحو لحظة انفجار داخلي، فتلك الضربات لا تهدف فقط إلى إضعاف الردع الإيراني، بل إلى تفكيك علاقة المجتمع بالنظام، واستثارة انفعالات جماعية تُسرِّع من تآكل شرعية الدولة الثورية.
ومع ذلك، فإنَّ كلًّا من أمريكا وإسرائيل يُدركان أنَّ دفع إيران إلى حافة الانهيار الكامل قد يأتي بنتائج عكسية، فالخصم الذي يُدرك أنَّه لم يعد يملك ما يخسره، يتحول إلى فاعل غير عقلاني، يُقدم على خطوات مدمرة لا تتماشى مع حسابات التوازن الدقيقة التي تريدها واشنطن وتل أبيب. ولذلك، تسعى القوتان إلى إبقاء طهران داخل هامش "الأمل القابل للضبط"، دون السماح بانفلات الأمور نحو فوضى غير محسوبة، قد تجر المنطقة إلى اضطراب لا يمكن السيطرة عليه.
البراغماتية وحدها لا تكفي، ما لم يُدمج القرار الإيراني بفهمٍ عميقٍ لطبيعة التغير العالمي، فالعالم لا ينتظر طهران، والمشهد الإقليمي يمضي بسرعة نحو اصطفافات حادة تتطلب وضوحًا في التموضع لا يتَّسع للغموض الثوري أو الحسابات المؤجلة.
فاللحظة الإيرانية اليوم هي لحظة فلسفية بامتياز، إما أن تعيد تعريف نفسها داخل المعادلة الجديدة للوجود السياسي، أو أن تترك الآخرين يعيدون تشكيلها وفق مصالحهم.
وهنا، لا يعود السؤال فقط: ماذا ستختار إيران؟ بل أيضًا: من يملك القرار داخلها؟ ومن سيصوغ السردية القادمة: الحرس الثوري؟ أم تيار العقلانية الذي طالما وُئد قبل أن يتكلم؟ أم أنَّ الخارج سيحسم بالنيابة عنها ما لم تُبادر؟
الخيار لم يعد مسألة نظرية، بل ضرورة وجودية.
ففعلا عندما كتبت مقالي بعنوان "إدارة الخطر كأصل من أصول النفوذ"، فأمريكا وإسرائيل يعرفان كيف يديران الخطر ببراعة، ويحولان هذا الخطر إلى نفوذ يرسخان به هيمنتهما في المنطقة..!