العرب والذكاء الاصطناعي وحواسيب الكم: الفرصة الأخيرة للريادة والابتكار

نبض البلد -
حسام الحوراني خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي
في زحمة التحوّلات الكبرى التي يشهدها العالم، وبينما تُعاد صياغة مفاهيم القوة والنفوذ والمعرفة، يقف العرب أمام لحظة فارقة... لحظة قد لا تتكرر. إنها لحظة الذكاء الاصطناعي، وحواسيب الكم، وثورة التكنولوجيا التي تعيد كتابة القواعد وتكسر حواجز الزمان والمكان. فهل نكون جزءًا من هذا المستقبل؟ أم نبقى أسرى ماضٍ مجيد، وحاضرٍ يلهث وراء الركب؟
لقد كانت للعرب في القرون الأولى للنهضة الإنسانية صدارة لا ينازعهم فيها أحد. من بيت الحكمة إلى مدارس الأندلس، من جابر بن حيان إلى الخوارزمي، من ابن الهيثم إلى الفارابي… كنا نرسم خرائط العلم، ونبتكر أدوات المعرفة. كنا الريادة قبل أن تصبح حلمًا. واليوم، إذ تتشكّل موجة جديدة من التغيير العالمي، تأتينا الفرصة من جديد، ولكن بثوب مختلف، باسم جديد: الذكاء الاصطناعي وحواسيب الكم.
هذه ليست مجرّد تقنيات. إنها مفاتيح لقوة جديدة، وأدوات تعيد صياغة كل شيء: الاقتصاد، التعليم، الطب، الأمن، الإعلام، وحتى الفن والفكر. الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد روبوت يجيب عن الأسئلة، بل أصبح شريكًا في اتخاذ القرار، أداة في تشخيص المرض، عقلًا في تحليل الأسواق، وعينًا في مراقبة التفاصيل. أما حواسيب الكم، فهي تقف على أعتاب مرحلة تسبق الخيال، تُعيد تعريف "الممكن"، وتمنح الحوسبة قدرات تقارب قدرات الطبيعة ذاتها.
لكن السؤال الأهم: أين نحن كعرب من كل هذا؟
هل سنكتفي بالاستهلاك؟ هل ننتظر حتى تُصدر الشركات العالمية الأدوات والخدمات، فنصبح فقط مستخدمين؟ أم نستفيق، ونحوّل هذه الفرصة إلى نقطة انعطاف كبرى في تاريخنا الحديث؟
الفرصة اليوم لا تشبه أي فرصة أخرى. لأول مرة، التقنيات لم تكتمل بعد، السباق لم يُحسم، والبدايات لا تزال مفتوحة. وهذا هو الفارق: من يدخل الآن، يملك فرصة أن يشارك في تشكيل المستقبل، لا فقط أن يستهلكه. من يزرع اليوم في الذكاء الاصطناعي وحواسيب الكم، سيحصد غدًا مكانة عالمية لا تُشترى بالمال، بل تُبنى بالعلم، والإرادة، والجرأة.
لقد آن الأوان لأن تتحوّل الجامعات العربية إلى حاضنات للذكاء الاصطناعي، لا مجرد قاعات تقليدية. آن الأوان أن تضع الحكومات العربية هذا الملف على رأس أولوياتها. آن الأوان أن تتجه الاستثمارات نحو دعم الباحثين والمطوّرين، نحو صناعة خوارزميات بلسان عربي، ورؤية عربية، وقيم إنسانية تنبع من تراثنا العريق. آن الأوان أن ندرك أن الابتكار ليس رفاهية، بل هو البقاء.
وللشباب العربي أقول: أنتم الأمل، أنتم من يملكون اليوم أدوات لم تكن متاحة لأسلافكم. الإنترنت بين أيديكم، والمصادر التعليمية مفتوحة، والدورات المجانية على بعد نقرة. هل تدركون ما يعني أن تستطيعوا تعلم البرمجة، والذكاء الاصطناعي، وحتى مفاهيم الحوسبة الكمومية وأنتم في بيوتكم؟ لم يعد هناك حجة لمن يريد أن يصنع الفرق. فقط القرار... القرار بأن تكون جزءًا من هذا التحول، لا مجرد متفرج عليه.
أما للعقل العربي، فنقول: لقد آن الأوان أن نثق بأننا قادرون على المنافسة. لسنا أقل ذكاءً، ولسنا أقل طموحًا. فقط نحتاج إلى بيئة تؤمن بالعقول. إلى أنظمة تعليم تصنع المفكرين، لا الحافظين. إلى مؤسسات تحتضن الابتكار. فكم من شاب عربي عبقري اضطر أن يهاجر، لأن بلاده لم ترَ فيه سوى رقم جامعي؟ وكم من فكرة عربية دفنت، لأنها لم تجد من يمولها أو يصدق بها؟
إن تأخرنا عن هذه الموجة، فقد لا تأتي غيرها. وإن غبنا عن هذا المشهد، فسنبقى في هامش التاريخ الرقمي، لا في متنه. فالعالم اليوم لا يعترف إلا بمن يُبدع، ومن يُضيف، ومن يقود.فلنُجمع على هدف واحد: أن يكون للعرب موضع قدم في هذا العالم الجديد. أن نكون جزءًا من الصناعة، لا ضحية لها. أن نكتب معادلات المستقبل، لا أن نُقرأ من صفحات الآخرين.