على وقع الأزمات المعاصرة، هل تتغيّر طرق تفاعلنا مع الشأن العام؟

نبض البلد -

حاتم النعيمات

في الأحداث الكبيرة تكثر المواقف وتتمايز التوجهات، ويمكن للمراقب الذي يعايش أحداثًا متعددة أن يحصل على بيانات كبيرة تخص التوجه العام، وإذا راكم هذا المراقب استخلاصاته سيصل إلى قواعد واستدلالات مهمة عن أي مجتمع.

المجتمع الأردني مجتمع نشط سياسيًا، وعادة ما يشارك الأردنيون بآرائهم في معظم قضايا الإقليم والعالم، بل أن البعض يتبنى المواقف تمامًا كما يفعل الدبلوماسيون ورجال الحكومات وليس مجرد رأي، وقد تكتفي بجولة سريعة على صفحات التواصل الإجتماعي الأردنية لتكتشف ذلك. تأصيل ذلك معروف وهو أن الأردن الحديث تأسس في البداية على أنه نواة مشروع عربي كبير بعد الثورة العربية الكبرى، يضاف إليه تسببت به تفاعلات القضية الفلسطينية من تواجد قوي للتيارات الأممية التي لا تكترث لفكرة الدولة الوطنية كاليسار والقومية والإخوانية على أرض المملكة على مدار عشرات السنوات، وهذا بدوره خلق مواطنًا أردنيًا يميل للتفاعل مع كل القضايا الخارجية، وهذا توصيف يعرفه الكثير من المراقبين.

الجديد اليوم أننا في خواتيم صراع نفوذ بين إيران وإسرائيل يشبه إلى حد ما الحلقة الأخيرة في المسلسلات، وهذا الصراع بدأ تدريجيًا منذ استلام آية الله الخميني للسلطة بعد عام 1979، حيث يمكن ببساطة تقسيم هذا العداء إلى ثلاثة مراحل: المرحلة الأولى بدأت عام 1979 وهي مرحلة تسويق النظام الإيراني الشيعي الجديد من خلال رفع شعار فلسطين والاحتكاك بالولايات المتحدة وإسرائيل، والمرحلة الثانية بدأت بإيجاد ودعم تنظيم حزب الله في لبنان عام 1982، ثم المرحلة الثالثة خلال ما سمي بالربيع العربي حيث استغلت إيران ضعف بعض الدول التي ضربها الربيع وأسست مليشيات كالحوثي في اليمن والفصائل الشيعية في العراق وسوريا وحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين ليصبح مجموع ما تسيطر عليه هو خمس دول ومناطق.

ما يجري بين إيران وإسرائيل نتج عن توسع كبير لإيران بواسطة أذرعها في المنطقة خلال العقد الفائت، وبقيت هذه الأذرع على احتكاك مع إسرائيل على وقع ما يجري في مفاوضات الملف النووي الإيراني، نعم، كل ما لحق بالدول العربية التي سيطرت عليها إيران كان قربانًا للتموضعات الإيرانية في مفاوضاتها النووية مع الغرب، إلى أن جاءت الحرب الروسية الأوكرانية وكان لا بد حينها من تقليل المساعدات الأمريكية المقدمة لأوكرانيا بفتح جبهة ضد إسرائيل في منطقتنا، فحدث ما تريده روسيا واقتسمت إسرائيل المساعدات مع كييڤ التي عبر رئيسها عن استياءه من ذلك. أي أن الأوامر والمصالح أدت إلى أن طلب الروسي من الإيراني ابتداء الحرب والإيراني طلب من حماس، والوقود كالعادة دماء الشعوب العربية.

ردة فعل إسرائيل وأمريكا كانت خارج التوقعات، حيث اتُّخذ القرار في واشنطن بتدمير أذرع إيران بدءًا من غزة وصولًا إلى لبنان ثم سوريا، وتحييد الذراع العراقي ومحاصرة الذراع اليمني، وكنتيجة طبيعية لذلك كان لا بد لواشنطن أن تضمن عدم تكرار التمدد الإيراني فكانت الأوامر لإسرائيل بالانتقال إلى مرحلة ضرب رأس ما سمي بـ"محور المقاومة" المتمثل في إيران وإنهاء جوهر الصراع المتمثل في البرنامج النووي الإيراني، وبدأت إسرائيل في الثالث عشر من حزيران. والقصد هنا أن ندرك جميعًا أن تحرير فلسطين لم يكن موجودًا في بنود الصراع إلا كفكرة لامّة استطاعت إيران من خلالها تكوين المليشيات.

اليوم نحن نقف أمام النتائج، وهي واضحة وكارثية للأسف، فالدمار الذي لحق بالقضية الفلسطينية لم يستوعبه العقل العربي المنفعل الذي ما زال ينتظر الخوارق لتحل له أزماته، ناهيك عن عدم الإحساس الحقيقي بتضخّم قوة الكيان الإسرائيلي منذ أن استطاع المحاربة على عدة جبهات آخرها إيران نفسها، وهذا كله رغم أن دولة الشعارات والتهديدات إيران تعيش اليوم وضعًا سيئًا تحت وقع ضربات إسرائيل، أي أن أهم منابع الوعيد والبروباغندا في المنطقة لم يستطع حماية نفسه.

لأجل ذلك كله، يحتاج العقل العربي إلى صحوة لإعادة ترتيب أولوياته لمواجهة النظام الجديد المتوقع في المنطقة والعالم؛ فالمنطقة لن تحتمل هذه الفوضى مرة أخرى لأنها تحتاج بالأساس إلى عقود للتعافى أجيالها مما أصابها من أوهام.

وبالعودة إلى الأردن، فإنني أعتقد أنه يحتاج أن يبذل أكثر من طاقته ليكون مركزيًا في النظام العربي القادم بصفته المتضرر الأكبر مما حدث ويحدث من تحولات في المنطقة. الصحوة المطلوبة يجب أن تكون مبنية على أسس فكرية بالدرجة الأولى لأن أي مشروع نهضوي ناجح يحتاج -بتصوري- إلى تعزيز سؤال النتائج بدلًا من النوايا في مطلع أي تحليل، ويحتاج بالإضافة إلى ذلك من حصر الحاجات الوطنية الخاصة وليس مصالح الآخرين، وهذا يحتاج إلى عمل دؤوب من قبل الجميع وبالأخص مؤسسات التنشئة والإعلام .