نبض البلد - قرار الأردن وسط تشابك المحاور الإقليمية
منصور البواريد
في مشهد إقليمي بالغ التشابك والتعقيد، يتواجه الشرق الأوسط مع ذاته في صراع مشاريع لا يعبأ كثيرًا بمصالح الشعوب ولا باستقرار الدول الصغيرة. إيران تتحرك في الإقليم كقوة عابرة للحدود، مستثمرة في الهويات المذهبية والفراغات الجيوسياسية لصناعة نفوذها وتثبيت أذرعها الممتدة. وفي المقابل، تواصل إسرائيل مشروعها التوسعي القائم على إنتاج الأزمات وخلق خطوط تماس دائمة تبرر من خلالها استمرار حالة الاستثناء الأمني والعسكري الذي يحكم عقلها السياسي منذ قيامها.
في هذا المناخ المضطرب، لا يمكن للأردن كدولة ذات موقع جيوسياسي حساس أن ينساق خلف عواطف اللحظة أو خطابات الحشود العابرة، بل يفرض عليه موقعه الجغرافي ووزنه السياسي أن يقرأ المشهد بعقل الدولة البراغماتية الواقعية، لا باندفاع الأيديولوجيا أو الانحيازات الآنية.
حين تطلق إيران صواريخها باتجاه العمق الإسرائيلي، فهي لا تفعل ذلك نصرة لقضايا العرب ولا تضحية بمصالحها من أجل الشعوب المستضعفة، إيران تدير صراعها وفق منطق الدولة العميقة التي تحمي مشروعها، وتخلق توازنات ردع تُحصِّن به مجالها الحيوي في الإقليم، مستخدمة حلفاءها ووكلاءها وأذرعها المنتشرة، وفي الجهة المقابلة، تُعيد إسرائيل هندسة الاشتباك مع إيران وحلفائها كوسيلة دائمة لتعزيز شرعية "الأمن الوجودي" الذي تستثمر فيه لتكريس الدعم الغربي وتبرير سياستها التوسعية..
أما الأردن، فتكمن معضلته في أن يُستدرج إلى هذه المعركة كمنصة عبور أو ساحة تصفية حسابات، تحت عناوين وشعارات قد تبدو مشروعة في ظاهرها لكنها تحمل في طياتها تهديدًا مباشرًا لسيادته وأمنه القومي واستقراره الداخلي، وحين يرفض الأردن أن تتحول أجواؤه إلى ممر للصواريخ أو الطائرات المسيرة، فهو لا يتبنى موقفًا انحيازيًّا لصالح هذا الطرف أو ذاك، بل يدافع عن جوهر الدولة "السيادة"، فمنطق السيادة بالنسبة للأردن ليسَ ترفًا سياسيًّا، بل ضرورة وجودية تحصن قراره الوطني وتمنع تآكل مؤسسات الدولة في لعبة المحاور المتوحشة.
لقد فرض الأردن الكيان الإسرائيلي على احترام مجاله الجوي وفرض قواعد اشتباك واضحة تمنع انتهاك أجوائه، وهذه المعادلة يجب أن تُفهم جيدًا لدى كل الأطراف، بما في ذلكَ إيران وأذرعها.
ففي مثل هذه البيئات الهشة، لا يأتي التهديد للأردن من الخارج وحده، بل من الداخل أيضا، عبر شبكات تجنيد ناعمة وقوى اختراق تعمل لصالح المحاور الخارجية، سواء من عناصر تدين بالولاء للمشروع الإيراني وتعمل تحت شعارات وهمية، أو من شبكات تسلل استخباري تخدم أجندات الموساد الإسرائيلي، وهنا تظهر أهمية تحصين الجبهة الداخلية الأردنية بوصفها الحصن الأول والأخير لحماية السيادة الوطنية، ونحن نعتز ونفتخر بالأجهزة الأمنية والعسكرية الأردنية، ونؤمن بها وبقدراتها العالية في الحفاظ على أمن واستقرار المملكة..
وفي ظل التصعيد المستمر بين طهران وتل أبيب، على الأردن أن يستمر في إدارة موقعه الدقيق في الإقليم كدولة توازن تحافظ على علاقاتها الدبلوماسية مع الجميع دون أن تتحول إلى أداة لأي مشروع خارجي، وترفض أي مساومة على مجالها الجغرافي أو أمنها الداخلي مهما تنوعت الذرائع، وتزن خطواتها على أساس مصلحة الدولة الأردنية أولًا وأخيرًا، بعيدًا عن رومانسية المحاور أو شعارات الجمهور المتحمس، مع إدراك كلفة المغامرة والانزلاق في اللعبة التي قد تجعله ساحة صراع لا لاعبًا فيه، وهو ما يتنافى مع فلسفة الدولة الأردنية في البقاء صلبة وسط الانهيارات المحيطة.
الأردن اليوم أمام معادلة تتطلب وعيًا سياديًّا عميقًا في قراءة المشهد الإقليمي، فالمطلوب ليسَ الوقوف مع محور ضد آخر، بل الثبات على معادلة الدولة السيادية التي ترفض أن تكون ورقة بيد الآخرين، أو ممرًا لأحد، أو ساحة لتصفية الحسابات، وهذه بالضبط فلسفة بقاء الدولة الأردنية منذ عقود.