نبض البلد - حسام الحوراني خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي
حين يلتقي تراث آلاف السنين من الحكمة الشعبية والفلسفة الطبية الشرقية مع أعقد خوارزميات العصر الحديث، تنشأ فرصة نادرة لإعادة تعريف الصحة، ليس فقط كعلاج للمرض، بل كتناغم شامل بين الجسد والعقل والبيئة. الذكاء الاصطناعي، الذي اقتحم عالم الجراحة والأدوية الجينية، يتجه الآن بخطى حثيثة إلى الطب البديل، لا لينفيه أو يستبدله، بل ليمنحه ما لم يكن ممكنًا من قبل: الدقة، التخصيص، والتحديث.
لطالما كان الطب البديل مجالًا قائمًا على التجربة الشخصية، والتراكم الثقافي، والملاحظة الدقيقة للطبيعة. من الوخز بالإبر إلى الأعشاب الصينية، ومن الريكي إلى اليوغا، كانت فعالية هذه الممارسات تُقاس بالشعور الداخلي، أو بالتحسن التدريجي، دون أن تمتلك دائمًا بيانات كمية دقيقة. لكن الذكاء الاصطناعي جاء ليغيّر هذا النمط. أصبح بمقدور الخوارزميات تحليل آلاف الحالات التي استخدمت زيتًا معينًا أو عشبة محددة، وربط النتائج بالبيئة الجينية، أو النفسية، أو المناعية لكل شخص. إنها ثورة، لكنها صامتة، لأنها لا تلغي القديم… بل تحترمه وتمنحه صوتًا علميًا معاصرًا.
تخيل أن تدخل على تطبيق صحي مبني على الذكاء الاصطناعي، فتُدخل أعراضك، نظامك الغذائي، نمط نومك، وحالتك النفسية. خلال لحظات، يُحلل النظام بيانات ملايين الحالات الشبيهة، ويقترح عليك خليطًا من الأعشاب، أو تمارين تنفس مخصصة، أو تقنيات تأمل مناسبة لنمط دماغك. لم تعد نصيحة المعالج البديل تعتمد فقط على الحدس، بل أصبحت مبنية على علم البيانات الضخمة، وتحليل الأنماط، والتعلم الآلي.
والأهم من ذلك، أن الذكاء الاصطناعي لا يحكم ولا يملك خلفيات ثقافية ترفض الطب البديل كما تفعل بعض المدارس الطبية التقليدية. بل هو عقل محايد، ينظر إلى الأثر، ويحلل الفعالية، ويربط الظواهر بالنتائج. وإذا ثبت أن علاجًا عشبيًا معينًا فعّال في خفض القلق أو علاج اضطرابات النوم، فسيسجل ذلك، ويُطوره، ويُحسنه دون أن يُقحِم الأيديولوجيا في معادلاته.
لكن هذا الدمج لا يخلو من التحديات. فهل يمكن لحاسوب أن يفهم طاقة الجسد؟ أو أن يُدرك الأبعاد الروحية للتأمل؟ ربما لا، ولكن الذكاء الاصطناعي لا يحتاج أن يشعر، يكفي أن يرصد. يكفي أن يرى أن تقنية تنفس معينة خفّضت معدل ضربات القلب، أو أن عشبة معينة حسّنت المزاج، أو أن جلسات الوخز بالإبر أثّرت في إشارات الدماغ. وبذلك، يصبح الذكاء الاصطناعي جسراً بين العالم المادي والعالم اللامادي في الطب.
ما يُبشّر بالخير هو أن هذه الشراكة بين الذكاء الاصطناعي والطب البديل تُعيد للإنسان حقه في أن يكون مركزًا للعلاج، لا مجرد هدف للعقاقير. الإنسان ككل، بجسده ونفسه ووعيه. وهذا يعكس فلسفة الطب البديل الأصيلة التي ترى أن الصحة لا تعني غياب المرض فقط، بل تحقيق الانسجام الداخلي.
نحن اليوم نقف أمام تحول جذري. لا يعني فقط أن نعالج الأمراض بطريقة أكثر ذكاءً، بل أن نفهم أنفسنا من جديد. أن نكتشف أن الخوارزميات تستطيع أن تقودنا إلى حمية غذائية تناسبنا، أو توجّهنا إلى تمارين ذهنية تعالج اضطراباتنا النفسية، أو تقترح لنا أساليب نوم متكيفة مع إيقاعنا البيولوجي. كل ذلك ليس سحرًا، بل علم، قاعدته الأساسية: أن البيانات هي مرآة الروح المعاصرة.
في العالم العربي، حيث تمتزج الحضارات القديمة مع الشباب المتعطش للتكنولوجيا، هناك فرصة ذهبية لقيادة هذا التكامل. تراثنا الطبي مليء بالممارسات التي تحتاج فقط إلى من يُعيد قراءتها بعين الذكاء الاصطناعي. بين مخطوطات ابن سينا، وتجارب الأمهات، وتقاليد العلاج بالأعشاب، تختبئ كنوز تنتظر من يُبرمجها. والخوارزميات الآن جاهزة… فهل نملك الجرأة لنقول: نعم، الطب القديم قادر أن يولد من جديد، على يد ذكاء لا ينام، لا يتعب، ولا يُقيد بحواجز الفكر؟
الذكاء الاصطناعي لا يُقصي الطب البديل، بل يرفعه إلى مكانة علمية غير مسبوقة. وربما، للمرة الأولى في التاريخ، يصبح بإمكاننا أن ندمج بين ما هو فطري وما هو حسابي، بين الحكمة القديمة والذكاء الحديث. تلك ليست فقط نقلة في عالم الطب… بل نقلة في فهمنا لما يعنيه أن نكون بشرًا.