إدارة الخطر كأصل من أصول النفوذ

نبض البلد -

منصور  البواريد 

في الشرق الأوسط، لا تشتعل الحرب لتُحسم، بل كثيرًا ما تُدار لتبقى. وحيث تراكمت الصراعات حتى تحولت إلى طبقات جيولوجية من الأزمات المزمنة، تعود المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران لتتصدر المشهد مجددًا؛ لكن خلافًا لما قد يبدو عليه السطح، فإنَّ ما يجري ليسَ أزمة نووية عابرة أو تصعيدًا مؤقتًا بين عاصمتين تتنازعان على اتفاق، بل هو جزء من عملية معقدة، تقودها واشنطن بهدوء شديد، لإعادة هندسة المشروع الإيراني نفسه دون خوض حرب شاملة. ويُعاد رسم حدود المسموح والممنوع في تمددها الإقليمي .. بينما يبقى النظام نفسه جزءًا من توازن الرعب الذي يبرر استمرار اليد الأميركية فوق خرائط الشرق الأوسط لسنوات قادمة.

الإخلاء الأمريكي المدروس لبعض بعثاتها الدبلوماسية من بغداد والمنطقة ليسَ سوى إحدى أدوات الضغط النفسي في هذهِ المواجهة المركبة. الرسائل الأمريكية باتت واضحة، وهي: كل أدوات القوة على الطاولة، وكل السيناريوهات ممكنة، مع الحفاظ على هامش المناورة الذي لا يجر واشنطن إلى مستنقع الحرب الواسعة الذي خبرته طويلًا في الشرق الأوسط.
لكن واشنطن هذه المرة لا تستهدف النظام الإيراني بحد ذاته، بل تسعى لتفكيك امتداداته الإقليمية التي جعلت من طهران لاعبًا عابرًا للحدود منذ الغزو الأمريكي للعراق في 2003. المشروع الإيراني الذي تمدد عبر شبكات الوكلاء في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة، بات اليوم تحت مقصلة استراتيجية (تقليم المخالب) الأميركية.
العراق يشكل محور العملية، فالميليشيات المدعومة من طهران في هذا البلد لم تعد تشكل فقط تهديدًا للوجود الأمريكي هناك، بل باتت أدوات ضغط إيرانية على كامل البنية السياسية والاقتصادية في المنطقة. تفكيك الحشد الشعبي والمنظومات الموالية لإيران في العراق ليس سوى رأس الحربة في هذه الحملة الاستراتيجية، التي تهدف إلى ضرب النفوذ الإيراني في عمق المشرق العربي.

بالتوازي، تتحرك إسرائيل على خطوط الاشتباك في لبنان وسوريا وغزة. في سوريا، تُستنزف البنى اللوجستية الإيرانية تحت سيل من الضربات الجوية المنتظمة. وفي لبنان، يزداد الضغط الاقتصادي والسياسي على حزب الله، بينما يُدار ملف غزة وفق معادلة النار المحدودة التي تستهلك قدرات حماس، وتبقيها تحت السيطرة دون دفعها إلى حافة الانفجار الشامل. أما في اليمن، فتظهر مؤشرات التفاهمات السعودية الأمريكية الإقليمية مع الحوثيين كجزء من تسوية أوسع لتحييد الجبهة الجنوبية للخليج عن التمدد الإيراني.

فهذا المشهد لا يقود إلى حرب شاملة بقدر ما يقود إلى إعادة هندسة بيئة الصراع نفسها،،، المطلوب ليس إسقاط النظام الإيراني، بل إعادة تعريف أدواره ضمن معادلة أمنية تخدم استمرار الهيمنة الأمريكية على أمن الشرق الأوسط لعقد قادم على الأقل. فوجود إيران كلاعب إقليمي مهدِّد، لكنه مضبوط الإيقاع، يشكل أحد أعمدة المبرر الاستراتيجي لاستمرار الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، كما يعيد إنتاج حالة الارتهان الأمني الخليجي للولايات المتحدة.
في خلفية هذا التصعيد، تدور حرب إعلامية مشدودة الأعصاب، من خلال: تسريبات عن خطط الضربات، ومناورات بحرية، وعن تحركات قوات خاصة، وتهديدات متبادلة بين العواصم. لكنها جميعًا تخدم هدفًا واحدًا، وهو: إدخال طهران في دائرة "الرعب المحسوب"، ودفعها إلى طاولة المفاوضات بشروط أكثر إجحافًا من تلك التي انتهت باتفاق 2015. فالتفاوض القادم لن يدور حول البرنامج النووي فقط، بل حول البنية الكاملة للدور الإيراني في الإقليم.

إيران بدورها، رغم لهجة التهديد القصوى التي تستخدمها، تدرك أنَّ الذهاب إلى مواجهة شاملة قد يعني انهيار نظامها من الداخل. ولذلك، فإنَّ السلوك الإيراني يسير ضمن استراتيجية رفع سقف المخاطرة دون تفجير الصراع، في محاولة لتحسين شروط التفاوض دون الوصول إلى المواجهة الكاملة.

باختصار، ما يجري الآن هو معركة معقدة لإعادة تعريف موقع إيران في النظام الإقليمي والدولي. حرب باردة بنيران محدودة، تهدف إلى إعادة إنتاج "بعبع إيراني" يبقى تحت السيطرة، دون السماح له باختراق حدود التهديد الوجودي لمصالح واشنطن أو أمن إسرائيل.

ففي النهاية، لن تندلع حرب كبرى، ولن يتحقق سلام شامل ..
ستستمر المنطقة في إدارة هذا الصراع طويل الأمد، ضمن هندسة دقيقة من التصعيد المحسوب، ريثما تتبلور معالم النظام الدولي الجديد في ضوء التحولات الكبرى في العلاقة بين الولايات المتحدة، والصين، وروسيا.
 الشرق الأوسط اليوم لا يصنع الحرب بقدر ما يصنع موازين الخوف المدروس.