الذكاء الاصطناعي وعالم الألعاب: من المتعة إلى الإدمان

نبض البلد -
حسام الحوراني خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي
في الزاوية الأخرى من الغرفة، يجلس طفل صغير بعينين تلمعان حماسًا، يحمل بيديه جهاز تحكم، يندمج في عالم افتراضي لا حدود له، يتفاعل مع شخصيات رقمية تُجيبه، تُقاتله، تُكافئه، وتشاركه مشاعر الانتصار والهزيمة. هذا المشهد لم يعد نادرًا، بل أصبح ركنًا يوميًا في حياة ملايين الأطفال والمراهقين وحتى الكبار. لقد أصبحت الألعاب الإلكترونية عالمًا قائمًا بذاته، لم تعد مجرد تسلية، بل أصبحت واقعًا موازيًا أكثر جاذبية من الواقع الحقيقي. والوقود الخفي لهذا العالم المذهل هو الذكاء الاصطناعي، الذي نقل الألعاب من مرحلة البرمجة الجامدة إلى مستوى من التفاعل يكاد يضاهي الإدراك الإنساني.
الذكاء الاصطناعي غيّر كل شيء في عالم الألعاب. لم تعد الشخصيات الافتراضية تكرر نفس الحركات، أو تستجيب بطرق مملة، بل أصبحت تفهم اللاعب، تتعلم منه، تزداد صعوبة كلما زادت مهارته، وتتكيف مع أسلوبه. الألعاب الحديثة أصبحت تستخدم الذكاء الاصطناعي لتقديم تجارب شخصية لكل لاعب، حيث يُصمم له المحتوى خصيصًا، تُقترح له المهام، تُرسم له السيناريوهات، ويُفتح له عالم لا نهائي من الخيارات والتحديات. في كل مرة يظن أنه اقترب من النهاية، يظهر ما هو أعظم، وما هو أكثر إثارة. إنها متعة لا تنتهي، لكنها في الوقت ذاته فخ لا يُرى.
وهنا، تتقاطع المتعة مع الخطر. فالذكاء الاصطناعي، بقدر ما يمنح اللاعب تجربة غامرة، يستخدم أيضًا بياناته وسلوكياته لبناء نظام من التفاعلات المصممة خصيصًا لتُبقيه متصلاً لأطول وقت ممكن. الخوارزميات لا تهدف فقط إلى الترفيه، بل إلى شدّ الانتباه، إلى خلق الإدمان بطرق ناعمة، تجعل اللاعب يشعر أنه اختار البقاء، بينما هو في الحقيقة مدفوع بآليات دقيقة تُغذّي فيه الرغبة بالاستمرار، وتُشبع مراكز المكافأة في دماغه بشكل مستمر ومتكرر.
الإدمان على الألعاب اليوم لم يعد حالة فردية عابرة، بل أصبح ظاهرة عالمية تستدعي القلق. ملايين الساعات تُهدر يوميًا، والعديد من العقول الشابة تُستهلك في عوالم افتراضية تُقدّم الإثارة دون جهد، والانتصار دون تعب، والانغماس دون تفكير. الذكاء الاصطناعي في هذه الحالة، بدل أن يكون أداة للتعليم أو الابتكار، يتحول إلى شريك في خلق بيئة لا تُشجع على الإنتاج، ولا على النمو الشخصي، بل تدفع نحو الانغلاق، والانعزال، وتشوّش مفاهيم الوقت والقيمة والواقع.
ومع ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي ليس شرًا مطلقًا في هذا السياق. بل يمكن أن يكون قوة للخير إذا أُحسن استخدامه. يمكن للألعاب الذكية أن تُصبح أدوات تعليمية مبهرة، تُعلم اللغات، وتُطوّر المهارات، وتُدرّب على التفكير الاستراتيجي، وحتى تُحاكي تجارب الحياة الواقعية بشكل يساعد على اتخاذ القرارات، وفهم العواقب. بل إن بعض الألعاب باتت تُستخدم في علاج بعض الاضطرابات النفسية، أو في تنمية الذكاء العاطفي، أو في بناء فرق عمل افتراضية تحاكي بيئات العمل الحقيقية.
الفرق هنا يكمن في النية، في التصميم، وفي التوازن. المشكلة ليست في الذكاء الاصطناعي، بل في غياب المعايير الأخلاقية والتربوية التي تضبط استخدامه في صناعة الألعاب. الشركات التي تُطور الألعاب تهدف إلى الربح، وهذا مفهوم، لكن حين يتحول الطفل إلى سلعة، ويُقاس النجاح بمدى ارتباطه بالشاشة، فإننا أمام معضلة حضارية يجب مواجهتها. الأمر لا يتطلب فقط تشريعات، بل يحتاج إلى وعي مجتمعي شامل، وتربية رقمية تبدأ من البيت، وتُكملها المدرسة، وتحتضنها السياسات العامة.
علينا أن نُعلّم أبناءنا أن المتعة ليست نقيضًا للوعي، وأن اللعب الحقيقي هو الذي يُحرر الخيال لا الذي يُقيده، وأن التكنولوجيا وُجدت لخدمتنا لا لاستعبادنا. وأن العالم الافتراضي، مهما كان جميلًا، لا يُغني عن حضن أم، أو جلسة حوار، أو تجربة حقيقية تملأ الروح. الذكاء الاصطناعي قد يكتب قصة اللعبة، لكنه لا يستطيع أن يمنح الطفل ذكريات الطفولة الحقيقية التي تُبنى في حضن العائلة، وفي ساحات الحياة.
نحن بحاجة إلى ثورة وعي، لا تُعادي التقنية، بل تُعيد الإنسان إلى مركز المعادلة. نحتاج إلى ألعاب تُبني القيم، لا تُبدد الوقت. إلى ذكاءٍ يُنير العقل، لا يُخدّر الإرادة. فالتحدي ليس في أن نمنع أطفالنا من اللعب، بل أن نُوجّه هذا اللعب ليكون جسرًا نحو النمو، لا قيدًا خفيًا يسحبهم نحو هاوية من الإدمان المقنّع.
اخيرا، الذكاء الاصطناعي هو المرآة التي نُصنع بها أدواتنا، ونعكس فيها نوايانا. فليكن ما نراه فيها انعكاسًا لحبنا لأطفالنا، واحترامنا لعقولهم، وإيماننا بأن المتعة لا تعني الغفلة… بل يمكن أن تكون بوابة نحو الإدراك، والتطور، والإنسانية.