نبض البلد -
حاتم النعيمات
في التاسع من حزيران من كل عام يحتفل الأردنيون بعيد جلوس جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين على العرش، وفي العاشر من ذات الشهر يحتفلون أيضًا بعيد الجيش والثورة العربية الكبرى. لذلك فإن شهر حزيران يحمل المناسبات الأغلى على الأردنيين بعد أيار الذي نحتفل فيه بعيد الاستقلال المجيد.
الجلوس الملكي يشكّل بدايةً لمرحلة جديدة استطاع خلالها الملك عبد الله تأطير فكرة الدولة الوطنية الأردنية عبر شعار "الأردن أولًا”، وهذا برأيي كان إعلانًا واضحًا لاعتماد استراتيجية التقليل من مجاملة الظرف الخارجي على حساب الداخلي، ونتيجة لذلك اشتدّ عود الأردن واستطاع أن يَعبر من كل الأزمات التي أحاطت به، ولو كانت الموصلية مع الحدث الخارجي كما كانت في العقود السابقة لوقفنا اليوم أمام استحقاقات مُكلفة نحن في غنىً عنها. المناسبة الثانية وهي عيد الجيش الذي يجسّد معانيَ التضحية التي قدّمتها هذه المؤسسة الشريفة العريقة، ويستعرض العلاقة التكوينية بين الأردنيين وجيشهم. وما كان لهذا كله أن يكون إلا بثورة عربية أنهت الاحتلال العثماني الذي عطّل النمو الطبيعي للمجتمع الأردني بأن أشبعه تجهيلًا وقمعًا لمئات السنين.
الاحتفال بالمناسبات الوطنية مهم جدًّا لأن له دلالات مهمّة على استقرار ومَنعة الدولة والحُكم، فالدول غير المستقرة لا تحتفل. ولهذه الاحتفالات مردود حقيقي على عمليات تعزيز الهوية الوطنية، خصوصًا في بلد مثل الأردن استُهدفت هويته بالكثير من التهميش والتشويه.
الاعتراض على هذه الاحتفالات، أو بالأصح حول فائدتها -كما يقول البعض- له دوافع متعددة، بعضها حميد، والبعض الآخر منها خبيث، ولكن في الحالتين علينا أن ندرك أن من حق الأجيال الجديدة أن تنشأ وتتربى على هوية وطنية أردنية واضحة غير مشوّشة، فقد عانى الكثير ممن سبقهم من إرباك في تعريف الهوية نتيجة لشراسة خطاب التيارات التي كانت تسيطر على الفضاء السياسي العام لعقود في الأردن.
صحيح أن تعزيز قوة الاقتصاد وتطوير الإدارة أمور مهمّة، لكن المعادلة في الأردن مختلفة بتصوري لأن مشاريع تحسين الاقتصاد والإدارة كانت تصطدم عادةً ببعض التوجهات والأفراد الذين لا يعتدّون بكينونة هذا البلد ولا يرونه يستحق التضحية من الأساس؛ فالبعض كان يتعامل مع المنصب العام بنفعية صارخة من باب أن هذا البلد لم يُكمل بعد متطلبات الوجود. للأسف فقد كنا سابقًا نحتاج لنقاش الأردن من ناحية شرعية الوجود من العدم أكثر من نقاشنا لمشاكله وتحدياته، لكن بعد صحوة الأردنيين الأخيرة لهويتهم، أصبحت مهمتا الإصلاح الاقتصادي والإداري مرتبطتين بحالة انتماء أعلى.
في السنوات الأخيرة نما تيار وطني استثمر ثورة الاتصالات والتواصل الاجتماعي لتظهير الهوية الوطنية الأردنية، وبدأ جهد هذا التيار يتكثّف عامًا بعد عام بشكل أكبر، حتى عمّت صحوة شعبية أردنية استطاعت نبش ما أُخفي من موروث أردني ونجحت في صدّ هجمات إعلامية شرسة ضدّ روايتنا، واستمر هذا التيار في إعلاء صوته إلى أن استشعرت الدولة وجوده ورأت بعينها كيف ساندها في مهمة صعبة كمهمة التصدي الإعلامي وتظهير واسترجاع الهوية الوطنية، فكانت عدّة تصريحات مهمة من قبل الحكومة الأردنية تؤكّد أن لهذا البلد هوية واحدة وعلمًا واحدًا، وآخرها ما قاله دولة رئيس الوزراء خلال زيارة مهمة لوزارة التربية والتعليم (مؤسسة التنشئة الأهم في الدولة).
إذن، فنحن لا نحتفل اليوم بمجرد ذكرى لأحداث مهمّة في تاريخنا، بل نستخدم هذه المناسبات لإظهار ما حققناه على صعيد استعادة ما حُجب من هويتنا الوطنية، فهذه المناسبات أعتبرها تفقدًا سنويًّا لما أُنجز في هذا المجال. وهذا لا يعني أن مضمون هذه الاحتفالات بالقيادة الرصينة والجيش العظيم ليس مهمًّا، بل على العكس، فإن هذه القيادة وهذا الجيش جنّبانا الآثار الكارثية لأزمات وتقلبات المنطقة لعقود طويلة، وما احتفاؤنا بهما إلا تعبير عن إدراك عميق لدورهما في بناء هذا الوطن ولطبيعة هذه المنطقة التي لا تحتمل إلا خيارين؛ إما الاستقرار أو الدمار.