نبض البلد - المحامية هبة أبو وردة
الخطوات السياسية، التي تتخذ دون تقدير تفتح الأبواب لنتائج لا تغلق بسهولة، رغم أنها لم تكن المرة الأولى، التي تمارس فيها إسرائيل السيادة خارج سيادتها؛ فالشعور المزمن الكيان المزمن بالحصانة الدولية، جعله دائما ما يمارس نوعا من "القرصنة القانونية"، إلا أن هذه الخطوة على خلاف سابقاتها، كنت في فراغ الحماية، فمنذ أن تخلت عنه واشنطن رمزيا، وتلفظه ترامب من تحالفاته الجديدة، وهو يقف بلا حليف وبلا غطاء ديني أيضا، فأوقفته خطوته غير المحسوبة، لاقتحام السفينة "مادلين"، على شاطئ السياسة العالمية عاريا من الحلفاء، ومنكسا أمام قوس العدالة.
في السياسي، هذا هو "سقوط الهيبة من خوف الزعماء"، بمعنى أوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وضع الكيان لأول مرة في قاع حرج لا يظله حليف ولا قانون؛ نتنياهو اليوم في أضعف نقطة منذ صعوده الأول في التسعينيات؛ فهو محاصر بثلاث دوائر متداخلة، الداخل الإسرائيلي، المجتمع الدولي والخصوم السياسيين، مع عدم إمكانية الهروب من أي منها، هذا الواقع نقل نتنياهو، من عقلانية البقاء إلى جنون السيطرة، ووضع الحكم بالمنطق جانب وسار مع اندفاعية الهروب إلى الأمام؛ فلا مجال للتهاون مع أي ملف يربك صورته وهو يحارب على جبهات المحكمة والكرسي معا.
السفينة "مادلين"، أبحرت برايتها الإنسانية، بلا أي خطر عسكري، لكنها لم تكن تعي أن الكيان لا يهاب السفن الحربية، ولم يسبق أن أرتجف أمام مدمرة عسكرية أو بارجة مرت بمحاذاته؛ فهو مجهز لمواجهة الأعداء النظاميين، بما يمتلك من غواصات نووية، ومنظومات دفاع جوي تغلق السماء، لكنه يفتقد اتزانه أمام سفن الوعي، وينخلع رعبا من قارب يحمل كاميرا، أو شراع يلوح باسم "الإنسانية"، خاصة وأن نتنياهو اليوم يقود بسياسة الطوارئ الأخلاقية، يحاصر ما لا يحتمل صوته، يسجن من يواجهه بالضمير، بلا هدف سوى محاولة إرجاء لحظة الحقيقية.
عين القارئ السياسي ترى في هذا الرد المبالغ فيه على "مادلين" صراع بقاء من زعيم يرى في البحر مشنقة، وفي القارب شهادة، وفي الكاميرا سكين يقطع آخر خيوط اسطورته السياسية، وما جعله يبدع في اداء رقصة الذعر هذه المرة، أن "مادلين"، خرجت من ميناء غربي، يتحدث بلغة أجنبية، قادرة على نقل ما رأت للعالم، الأمر الذي جعلها تقع على إدراكه وكأنها سكين يهدد أخر خيوط أسطورته السياسية، فخطى خطوته بأمل أن يقطع هو بها البث الذي سيشهد عليه أمام العالم، بزعم "الأمن القومي"، إلا أنه قطع العالم بأكمله عنه ضرب شرعيته واصطدم بقاع هيبته.
هذا الرد الهستيري من قائد مأزوم يحارب على حافة الجرف، ويحكم بمنطق بالذعر، حول "مادلين"، التي تحمل على ظهرها، مجموعة من النشطاء الأحرار، من سفينة متجهة لإمداد القطاع بالمساعدات، إلى بوابة هاوية لإسقاط الشرعية الأخلاقية التي لطالما تغنى بها الكيان؛ فهي كانت بمثابة اختبار أخلاقي عالمي اختار الكيان ان يرسب فيه علنا، والعقلية الأمنية الاسرائيلية، التي تعمل بمنطق كشف الجريمة أخطر من ارتكابها، ووقع في فخ نصبه لنفسه، حين اختار أن تعتقل سفينة موثقة، خرجت من البحر بأرشيف يحمل الوقائع، ويسردها بوضوح "الدولة الوحيدة الديمقراطية في الشرق الأوسط"، مارست فعلا لا تقوم به إلا جمهوريات القراصنة، اختطاف في عرض البحر، بلا حكم بلا مذكرة بلا خطر.
وذلك تكون "مادلين”، هي من حاصرت الكيان، بسلسلة من الاختراقات القانونية متعددة المستويات، وجعلته يقف وجها لوجه أمام أدوات المحاسبة الدولية؛ فمن جهة وضع نفسه أمام مطالبات دبلوماسية مباشرة، استنادا إلى اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية ومبدأ "الحماية الدبلوماسية"، خاصة وأن النشطاء الأحرار يحملون جنسيات أوروبية فاعلة، كما أن لها تفعل أدواتها القانونية، سواء عبر "الولاية القضائية العالمية"، أو عبر "فتح تحقيقات وطنية"، وإذا كان الكيان محظوظ يمكنها أن تكتفي "بتجميد الاتفاقيات الثنائية" كإجراء عقابي مشروع.
من جهة أخرى، "مادلين" تمتلك الآن وثيقة جناية، يمكنها أن تفتح للكيان ملف للمساءلة أمام المحكمة الجنائية الدولية، على ضوء احتجاز مدنيين "الأحرار"، دون إخطار أو سند قانوني، خاصة وأن التقارير الحالية تشير بأن "مادلين" اقتحمت في "أعالي البحار"، بمعنى أوضح أنها خارج حدود "البحر الإقليمي الإسرائيلي"، مما يكييف فعله بأن "قرصنة الدولية" وفق اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، التي تنص صراحة على حرية الملاحة، وترفض أي ادعاء بالسيادة الزائفة على المياه الدولية، الأمر الذي ينذر ثبوته بإمكانية تحريك الشكوى بموجب نظام روما الأساسي، خاصة أن بعض الأحرار يحملون جنسية دول أطراف في المحكمة.
لن يقف الأمر هنا، الكيان قام بخرق واضح للعديد من المواثيق الدولية، اتفاقية جنيف الرابعة، البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مما يسقط جميع التبريرات التي زعمها الكيان، فمن حيث حق "الدفاع عن النفس"، فلا مجال لطرحه في ظل انعدام أي مؤشرات بأن "مادلين" تحمل معدات عسكرية على متنها، ومن حيث أن القطاع تحت الحصار، فهو حصار غير مشروع أصلا بموجب بموجب القانون الإنساني الدولي، ولا يبرر بأي حال اعتراض السفن الإنسانية أو منع المساعدات، أو حصر إيصالها عبر "المعابر البديلة"؛ فوجود هذه المعابر لا تسقط الحق القانوني في استخدام الملاحة البحرية، خاصة لأغراض إنسانية ورمزية.
وعليه، فأن الكيان أعاد نفسه للمربع ذاته الذي حاول الهروب منه منذ كارثة "مرمرة"، لكنه الآن في مواجهة أكثر تعقيدا؛ فالجنسيات متعددة أكثر، التوثيق لحظي ومرئي، ردود الفعل الحكومية بدأت بالظهور ولا غطاء سياسي يحصن الكيان ونتنياهو من الحساب، الكيان اليوم يخطئ مرتين، مرة لأنه احتجز أحرارا، ومرة لأنه كشف وجهه أمام شاهد سيدلي بقسمه أمام التاريخ، وهنيئا "مادلين" لما اطلقت من قضايا، جاءت تحمل سلاما ووقفت تحمل قوس عدالة.