لماذا تتعاطف إيرلندا مع الفلسطينيين بحرارة؟

نبض البلد -
د. أيوب أبودية


شهدت أيرلندا في منتصف القرن التاسع عشر واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في التاريخ الأوروبي، تمثّلت في مجاعة البطاطا الكبرى (1845–1852). وعلى الرغم من أن السبب المباشر للمجاعة كان مرضًا فطريًا أصاب محاصيل البطاطا وبرودة شديدة، فإن السياسات البريطانية تجاه أيرلندا خلال الأزمة، والتعامل مع شعبها، كشفا عن بُعد استعماري وديني قمعي أدّى إلى تفاقم المأساة وأدى إلى وفاة أكثر من مليون شخص، وهجرة مليون آخرين، معظمهم إلى الولايات المتحدة وكندا.

من أكثر الصور قسوة في الذاكرة الأيرلندية تلك التي ارتبطت ب"تحويل الحساء" (Souperism) ، حيث قامت بعض مؤسسات الإغاثة البروتستانتية – التي موّلتها الكنيسة الإنجيلية الإنكليزية – بتوزيع الطعام، خصوصًا الحساء، على الفقراء الجوعى بشرط اعتناقهم البروتستانتية وترك الكاثوليكية. هذا الشرط لم يكن قانونيًا من الدولة البريطانية لكنه شجّعته منظمات تبشيرية خاصة. وقد انقسم الناس بين من اختار الجوع للحفاظ على إيمانه، ومن قَبِل التحول مكرهًا من أجل إطعام أطفاله، مما خلق حالة من الانقسام المجتمعي.

لم تكن المجاعة مجرد كارثة طبيعية، بل كانت نتيجة مباشرة لسياسات استغلال استعماري، منها:

1. الاحتكار الزراعي: كانت معظم الأراضي الزراعية مملوكة للإنجليز أو النبلاء البروتستانت، الذين فرضوا على الفلاحين الأيرلنديين الكاثوليك العمل بنظام إيجارات قاسٍ. وحتى خلال المجاعة، استمرت الحكومة البريطانية بتصدير الحبوب والماشية من أيرلندا إلى إنجلترا، في الوقت الذي كان الأيرلنديون يموتون جوعًا.

2. الليبرالية الاقتصادية المتوحشة: تبنّت الحكومة البريطانية سياسة "عدم التدخل" laissez-faire ورفضت توزيع الطعام بشكل مركزي أو تخفيض الإيجارات، بحجة أن السوق سيصلّح نفسه، مما عمّق الفقر والمجاعة.

3. العمل القسري: أُجبر الجوعى على العمل في مشاريع عامة (مثل بناء الطرقات) مقابل حصص ضئيلة من الطعام، وكان يُطرد من يعجز عن العمل، بغض النظر عن عمره أو حالته الصحية.

لم تكن المجاعة سوى ذروة تاريخ طويل من القمع الديني والسياسي، بدأ مع الاستعمار الإنجليزي لأيرلندا وتمثل فيما يلي:

* قوانين العقوبات (Penal Laws): فرضت على الكاثوليك بين القرنين 17 و18م، ومنعتهم من التعليم، وتملك الأرض، وتولي المناصب، وحتى ممارسة شعائرهم الدينية بحرية.

* محاولات تحويل ممنهجة: تم بناء مدارس إنجليزية بروتستانتية هدفها تنصير الأطفال الأيرلنديين الى البروتستانتية، وأُغلق عدد من الأديرة والكنائس الكاثوليكية.

* الإبادة الثقافية: مُنعت اللغة الغيلية الأيرلندية، وحوصرت الأسماء المحلية والعادات الشعبية، بهدف "تمدين" السكان وفق النمط الإنجليزي.

خلال المجاعة وبعدها، اضطر مئات الآلاف إلى الهرب من الموت عبر الهجرة، رغم ظروف السفر الكارثية. عُرفت السفن التي أقلتهم بـ"سفن التابوت" (Coffin Ships) بسبب ارتفاع معدلات الوفيات فيها. وبذلك فقدت أيرلندا نحو ربع سكانها في أقل من عقد، مما غيّر بنيتها السكانية والاجتماعية إلى الأبد.

. العداء التاريخي تجاه بريطانيا: يُنظر إلى المجاعة في أيرلندا ليس ككارثة طبيعية، بل كـ"إبادة بالجوع" نتيجة الإهمال والتعصب الديني والسياسي من الاستعمار البريطاني.

* تشكيل الهوية القومية: أصبحت المجاعة رمزًا للمعاناة والصمود في المخيلة الوطنية الأيرلندية، وساهمت في تصاعد النزعة الاستقلالية التي ستؤدي لاحقًا إلى ثورات متعاقبة، مثل ثورة عيد الفصح 1916.

* التأثير على الشتات الأيرلندي: لعب المهاجرون الأيرلنديون في الشتات من الذين وصلوا إلى أمريكا وكندا دورًا مهمًا في تشكيل تلك المجتمعات سياسيًا وثقافيًا، وظلوا يحملون معهم مرارة الجوع والتشريد وأمل الحرية.

فلم تكن مجاعة البطاطا الكبرى في أيرلندا مجرد أزمة غذائية، بل كانت مرآة لانعدام العدالة الاستعمارية، واستخدم فيها الجوع كسلاح للإخضاع الديني والثقافي. وتكشف المأساة عن أن الاستعمار لا يقتل بالرصاص فقط، بل بالتجويع والإذلال، وتُظهر مدى استعداد الإمبراطوريات لفرض عقيدتها وقيمها ولو على حساب حياة الملايين.

إن الاعتراف بهذه الحقبة لا يُعيد الضحايا إلى الحياة، لكنه يُعيد الاعتبار للتاريخ من منظور الضحية، وليس فقط من منظور المنتصر.

والان انتصر الايرلنديون وتحرروا بعد أن عانوا من الحصار والتجويع، ولذلك هم أقدر الناس على فهم ما يشعر به الفلسطينيون الان، فتحية من القلب لكل ايرلندي.