حاتم النعيمات
من الضروري فتح نقاش عام حول معالم مشروع أردني وطني بناءً على التغييرات العميقة في المنطقة، فهذه التغيرات جذرية، لأسباب كثيرة أهمها أن المنطقة شهدت إضعاف قوى مثل إيران وأذرعها، وشهدت تضخمًا لقوة مثل إسرائيل (للأسف) وازدياد لنفوذ مثلما حدث مع تركيا. وعلى المستوي العالمي عادت أمريكا إلى المنطقة من خلال استعادة علاقاتها مع الخليج العربي واقترابها من عقد اتفاق مع إيران.
كل هذه المتغيرات تمسنا جغرافيًا بالدرجة الأولى؛ فقد عزز التركي والإسرائيلي نفوذهما على حدودنا الشمالية بعد انسحاب إيران من المشهد هناك، وقد وضعت إسرائيل عقبات كثيرة أمام الاعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل دول أوروبية وازنة، أما العلاقة الأمريكية مع دول الخليج فهذه بالذات تفرض علينا إعادة صياغة ترفع الارتباط معها بالاعتماد على ما حققناه من إنجازات دبلوماسية مع إدارة ترامب.
صحيح، أن الأردن وبعد السابع من أكتوبر بالذات، استطاع أن يظهر كقوة سياسية دبلوماسية، والنتائج خير دليل وفي معظم الساحات، لكن، للأمانة، هذا بحد ذاته لا يكفي لأنه مقرونٌ بحدث، بالتالي، فنحن نحتاج إلى جوهر جديد قادر على خلق استراتيجية تستطيع مواجهة "تسارع” التغيرات في المنطقة.
باعتقادي أن هذه الاستراتيجية يجب أن تتحرك بشكل أساسي من الوضع الداخلي في الأردن وليس الخارجي فحسب.
سأسرد هنا مشاهد واضحة أعتقد أنها مهمة في عملية تقييم المنطقة، أولًا: إيران تخلت عن أذرعها أمام آلة الحرب الإسرائيلية- الأمريكية ضمن سياق المراجعة الشاملة (وربما صراع داخلي) في طهران حول جدوى سياسة الأذرع. وهذا يتطلب منا أن ندفع "نحن" الزخم العربي ليملأ أي فراغ يتركه أي ذراع أو إيران بنفسها. وهناك مثال بسيط على ذلك حدث في لبنان بعد ضعف حزب الله في المعادلة، حيث تحرك الأردن بشكل مبادر ودعم الجيش اللبناني والحكومة، وظهرت التوافقات العربية الداعمة للرئيس اللبناني الجديد جوزاف عون عبر زيارات متبادلة مع عدد من الدول العربية. أقصد أن يؤخذ هذا الإحلال في لبنان كنموذج عمل، وأن يكون الأردن في مقدمة المبادرين، لأننا ببساطة أكثر المتضررين.
ثانيًا: تقييم يخص إسرائيل التي تستخدم بجدارة مظلومية السابع من أكتوبر وتفرض معادلتها الأمنية بدعم أمريكي مطلق. لذلك، فعلينا أن ننظر إلى إسرائيل بعد هذا التاريخ بشكل مختلف جذريًا عمّا قبله، ولا بد في هذا السياق من مراجعة جذرية للعلاقة معها لتضمين جميع المتغيرات الجديدة، بحيث يبقى خيار العودة إلى حالة الحرب بتعليق أو إلغاء معاهدة السلام ورقة موجودة على الطاولة. ولا أقول شن حرب بل التلويح بالعودة إلى حالة "اللاسلام"، وهذا أمر ضاغط له تأثيره المهم داخل إسرائيل.
ثالثًا، تقييم يجب أن توجه نتائجه إلى ضبط الساحة الأردنية الداخلية، فلا يمكن بأي حالٍ من الأحوال الاستمرار بالتراخي مع الكثير من التيارات المرتبطة بمشاريع خارجية، لأن القادم يحتاج إلى أن يكون البيت الداخلي مرتبًا بشكل دقيق. لذا، لا يجب الاستهانة بأي طرح يزرع الريبة بمواقف الدولة في النفوس، ولا بأي خطاب يهدف إلى التشويش على علاقة الأردنيين بوطنهم بكل أبعادها التاريخية والاجتماعية والسياسية. وبشكل أدق، فالمأمول هو دعم التجربة الحزبية الجديدة وإحلالها بدلًا من القديمة التي كان جزء واسع منها مرهونٌ بالخارج.
هذا العمل الداخلي يتطلب أن تصاحبه شرعية إصلاح شاملة، وخصوصًا اقتصاديًا وإداريًا، فلا يمكن المواجهة دون أن يكون هناك حدٌّ جيد من الرضا الشعبي بغض النظر عن الأعذار.
القادم يحتاج لخلق تصور جذري بمشاركة الجميع، فهذا منعطف تاريخي يجب أن يشترك الجميع بمسؤوليته، مع التأكيد على الثقة المطلقة بأن بلدنا قوي بشعبه وقيادته وجيشه وأمنه وبسياسته الخارجية الرصينة، لكن أحد أوجه القوة أيضًا يتمثل في خلق النقاشات العامة حول المستقبل، وعدم التغاضي عن بعض المشاكل الداخلية التي قد تكون نقطة ضعف تستغل ضدنا.