د. أيوب أبودية

أحوال السير في الأردن بعد خمسين عاما

نبض البلد -
د. أيوب ابودية
منذ نحو نصف قرن، عدت بعد استكمال دراسة الهندسة في بريطانيا إلى الأردن، وأحمل معي مزيجًا من مشاعر الحنين والأمل، وفي قلبي مقارنة لا تفارقني بين ما شهدته هناك وما أراه هنا في بلدي اليوم.

خلال هذه العقود الخمسة، شهد الأردن تحولات كثيرة، بعضها إيجابي ومبشّر، وبعضها لا يزال يراوح مكانه، ويذكّرنا بأن مسيرة التقدم لا تتحقق إلا بإرادة جماعية ووعي مجتمعي راسخ وصرامة في تطبيق القانون.

هل هناك تحسن ملموس في بعض القضايا؟
من بين التطورات التي يمكن ملاحظتها هي تلك المرتبطة بقوانين السير. فقد أصبحنا نشهد تطبيقًا أكثر صرامة لبعض القوانين التي كانت تُهمل سابقًا، مثل تحميل المسؤولية لعابري الطريق الذين يقطعون الشارع من غير الأماكن المخصصة، ما يعكس توجهًا نحو ترسيخ ثقافة مرورية مسؤولة لدى كل من السائق والمشاة بدلا من تحميل السائق المسؤولية دائما.
كذلك، فإن قطع شارة حمراء والسير بالاتجاه المعاكس الذي كان ظاهرة مألوفة في بعض الشوارع، بات اليوم تحت رقابة مشددة، وغرامات صارمة، وسحب الرخص، الأمر الذي قلل من هذه المخالفات بشكل ملحوظ.

أما السرعة الزائدة، فقد ساهمت الكاميرات المنتشرة على الطرقات في الحد منها، إلى جانب الحملات التوعوية المتكررة. ويمكن القول إن هذه الإنجازات تعكس إدراكًا متناميًا لدى الدولة لأهمية النظام والالتزام في تقليل الحوادث وحفظ الأرواح والممتلكات.

ولكن هل ما زالت قضايا تؤرّق المواطن،
رغم هذه التحسينات؟
إن كثيرًا من الممارسات المزعجة ما تزال قائمة، وتعكس في جزء منها ضعفًا في ثقافة احترام الآخرين، وفي جزء آخر تراخيًا في تطبيق القانون. فمثلًا، لا تزال أصوات أبواق المركبات تُسمع كأنها ممارسة عادية، وبعض سائقي المركبات الكبيرة لا يتورّعون عن استخدام "أبواق الهواء" ذات الأصوات العالية المزعجة، دون أدنى مراعاة للهدوء أو للمرضى وكبار السن أو حتى طلبة المدارس.

الاصطفاف المزدوج بدوره ما زال مشهدًا يوميًا مألوفًا، يتسبب في عرقلة السير وخلق اختناقات مرورية بلا داعٍ. لا أعلم كيف يستطيع مواطن محترم أن يشغل مسربا كاملا في اصطفاف مزدوج لمجرد شراء كاسة قهوة أو باكيت دخان؟

ولا يزال كثير من السائقين لا يعطون الأولوية لعابر الطريق، رغم أن هذا من أساسيات الذوق والسلامة، وعادة راسخة في دول العالم.

أما الأصوات المنبعثة من مركبات "شراء الخردة" أو بائعي الخضار عبر مكبرات الصوت، فتكاد تكون جزءًا من المشهد الصوتي اليومي للمدن والقرى على حد سواء، بما فيها من إزعاج مستمر، دون تنظيم واضح أو ترخيص مقيد، مما يعطل السير لبطء حركة هذه المركبات، ويشتت تركيز السائقين.

وهل يُعقل أن نشهد حتى اليوم مركبات تسير ليلًا من دون أضواء، وكأن قوانين السلامة لم تُسنّ أصلًا لهذا الغرض، أو كأن الأرواح والممتلكات على الطرقات لا قيمة لها البتة؟

وهل يعقل أن الأمانة لم تستطع لغاية الان فرز النفايات أو حتى تحديد موعد جمع النفايات يوميا ومنع تركها في الشوارع وعلى الأرصفة لتنبشها القطط تحت طائلة الغرامة؟

وهل يعقل أن الحافلات ما زالت تصدر أصواتا هائلة تلوث عمان صوتيا منذ السادسة صباحا، وتنفث دخانا أسود هائلا يستقر في رئاتنا؟

وهل يُعقل أن نشهد حتى اليوم حرائق في حاويات النفايات أو في ورشات البناء أو حرق أعشاب جافة، التي كثيرا ما يقوم بها عمال الأمانة أنفسهم؟

وهل يُعقل أن نشهد حتى اليوم أطفال يخرجون أجسادهم من النوافذ، ومركبات مكدسة بالأطفال، وبعضهم في المقاعد الأمامية وفي حضن السائق؟

وهل يُعقل أنا ما زلنا نشهد حتى اليوم مركبات تحتل مسربين، أو تسير عجلاتها على الخطوط البيضاء والصفراء إذا وجدت؟

فبين التحسّن والتمنّي
إن ما تحقق من تحسينات في بعض الجوانب، خصوصًا المرتبطة بتنظيم المرور، يُعدّ خطوة أولى على الطريق الصحيح، ويستحق التقدير. لكنه لا ينبغي أن يجعلنا نغفل عن القضايا التي لم تُحلّ بعد، والتي تتطلب جهدًا مضاعفًا، سواء من الدولة أو من المجتمع.

التغيير الحقيقي لا يبدأ فقط من القانون، بل من التربية، ومن ثقافة الاحترام المتبادل. نحن بحاجة إلى أن نُربّي أبناءنا على أن النظام ليس ترفًا غربيًا بل ضرورة حياتية، وأن احترام الآخر لا يُفرض بالغرامة فقط، بل بالوعي والضمير والأخلاق الحميدة.

نأمل أن يأتي اليوم الذي تُحل فيه هذه القضايا المزعجة، ونرى شوارعنا أكثر هدوءًا، وأكثر نظامًا، وأكثر احترامًا لإنسان هذا الوطن.