الذكاء الاصطناعي والفلكلور: حين تروي الخوارزميات حكايات الأجداد من جديد

نبض البلد -
حسام الحوراني 
في عصر تغزوه السرعة وتبتلع فيه التقنية مظاهر الحياة التقليدية، يبدو أن التراث الشفهي والرمزي الذي عرفته الشعوب عبر القرون – الفلكلور – يواجه خطر التلاشي والانقراض. من الأغاني الشعبية، إلى الحكايات والأساطير، والرقصات، والأمثال، والرموز الثقافية، يختزن الفلكلور ذاكرة الشعوب وهويتها. ومع ذلك، وبينما يظن البعض أن الذكاء الاصطناعي يمثل تهديدًا لهذه الموروثات، بدأت تظهر مؤشرات على أن هذه التقنية قد تكون هي الأداة الأقوى لحمايتها، بل وإعادة إحيائها بروح جديدة.
الذكاء الاصطناعي لا يُعيد فقط كتابة المستقبل، بل بات قادرًا على قراءة الماضي وتخليده بشكل غير مسبوق. من خلال تقنيات معالجة اللغة الطبيعية (NLP)، والتعلم الآلي، وتحليل البيانات الكبيرة، أصبح بالإمكان جمع وتوثيق وتصنيف آلاف القصص الشعبية والأهازيج والأمثال المتوارثة، التي كانت مهددة بالضياع بسبب الاعتماد على الرواية الشفوية أو حفظها في ذاكرة كبار السن فقط.
لقد بدأت خوارزميات الذكاء الاصطناعي بالفعل في تحليل التراث الشعبي وتقديمه بطرق تفاعلية ومبهرة. على سبيل المثال، يمكن لنماذج اللغة الكبيرة مثل GPT أن تُعاد تدريبها على قواعد بيانات فلكلورية ضخمة، فتُصبح قادرة على سرد الحكايات الشعبية بلغات ولهجات مختلفة، بل وحتى إعادة صياغتها بأسلوب عصري يجذب الجيل الرقمي دون المساس بجوهرها.
ومن المدهش أيضًا أن الذكاء الاصطناعي يمكنه الكشف عن أنماط غير مرئية في الفلكلور. من خلال تحليل النصوص والأساطير الشعبية عبر مناطق وجغرافيات متعددة، يستطيع أن يُقارن بين القصص والأساطير ويكشف التداخل الثقافي، أو التطور التاريخي للرموز والحكايات، أو حتى القواسم المشتركة بين الحضارات في تصوير الخير والشر، البطل والعدو، المرأة والأم، وغيرها من الرموز المتكررة في التراث الجمعي للبشر.
في مجال الموسيقى الشعبية، بدأت خوارزميات الذكاء الاصطناعي بالفعل في تحليل المقامات والإيقاعات والألحان الفلكلورية، وإعادة إنتاجها بطرق مبتكرة. في بعض المشاريع البحثية، تمكّن الذكاء الاصطناعي من "تعلم" أنماط الغناء الشعبي في منطقة معينة، ثم إنتاج أغانٍ جديدة مستوحاة من التراث، بصوت افتراضي ولغة محلية، تحتفظ بجمال الإيقاع القديم، ولكن بروح تكنولوجية جديدة. وهكذا، لم تعد الموسيقى الشعبية حبيسة التسجيلات القديمة أو الآلات التقليدية، بل عادت لتُغنى بلغات الأجيال الجديدة.
في الرقص والفنون الاستعراضية، بدأت تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تحليل الحركات الفلكلورية التقليدية، وتوثيقها رقمياً باستخدام تقنيات الرؤية الحاسوبية. بعض المؤسسات الثقافية تستخدم هذه الأدوات اليوم لتعليم الأجيال الشابة الرقصات الشعبية بطريقة تفاعلية تعتمد على الواقع المعزز والذكاء الاصطناعي، مما يسمح لهم بممارسة الفن التقليدي في بيئة رقمية جذابة.
ورغم هذه الطفرة الرقمية، تبرز تساؤلات جوهرية حول الهوية والأصالة: هل يمكن للذكاء الاصطناعي، الذي لا يملك ذاكرة جماعية أو إحساسًا ثقافيًا، أن ينقل روح الفلكلور كما عاشه الناس؟ هل يتحول التراث إلى "منتج تكنولوجي" يفقد صدقه حين يُعاد إنتاجه دون سياقه الاجتماعي والإنساني؟ أم أن الذكاء الاصطناعي، إذا أُحسن استخدامه، يمكن أن يُصبح مرآة رقمية للتراث، تحفظه وتُجدده في آنٍ واحد؟
الحقيقة أن الذكاء الاصطناعي لا يصنع الفلكلور من العدم، بل يتعلم منه، ويُعيد صياغته، ويُساهم في استدامته. إنه أداة بيد الإنسان، وليس بديلًا عنه. وكلما كان المحتوى الذي يُغذى به الذكاء الاصطناعي أصيلًا وغنيًا، كانت النتيجة أكثر احترامًا للهوية وأقرب للروح الأصلية للتراث.
في العالم العربي، يُعد الذكاء الاصطناعي فرصة ذهبية لإحياء كنوز فلكلورية مهددة بالاندثار. آلاف القصص البدوية، والأمثال الشعبية، والحكايات الريفية، والمواويل، التي لم تُدوّن قط، يمكن أن تجد اليوم مكانًا رقميًا خالدًا، إذا ما تم توظيف التقنية بشكل ذكي وإنساني في آنٍ واحد. يمكن أن تُطلق مبادرات وطنية لتوثيق التراث الشعبي باستخدام الذكاء الاصطناعي، تُشرك فيها الجامعات، والمهتمين، والفنانين، والتقنيين، لحماية الذاكرة الجماعية للأمة.
اخيرا، الذكاء الاصطناعي لا يُغيّر فقط طريقة إنتاج الفن، بل يُغيّر طريقة حفظه، وتداوله، وفهمه. ومع الفلكلور، يكتسب هذا التغيير بعدًا ثقافيًا عميقًا، لأنه لا يمس الماضي فقط، بل يعيد ربطنا بجذورنا ونحن نسير بخطى متسارعة نحو المستقبل.ربما لم يحلم الأجداد أن قصصهم ستُروى يومًا بواسطة آلة، لكنهم بلا شك، كانوا يتطلعون إلى يوم تُخلد فيه حكاياتهم إلى الأبد. ومع الذكاء الاصطناعي، تعيش الذاكرة… وتنتصر الحكاية.