نبض البلد - إبراهيم أبو حويلة
لقد سعى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تعميق مفهوم الدين المنهج في نفوس الصحابة، ولذلك كان عندهم عمق في الفهم والتصرف، فهذا أبو ذر يقول له الرسول بشكل مباشر بأن هذا الأمر وهو الإمارة يحتاج إلى مواصفات معينة لا توجد فيك، وأنت من أنت وهو يعلم محبة الرسول له، فهو كما قال عنه في حديث آخر يبعث أمة وحده، ولكن هنا الأمر مختلف.
إن السعي الحقيقي للخروج من أزمتنا يكون بالفهم السليم للمنهج والحرص على تطبيقه، وإعلاء أمره بعيدًا عن رغبات البشر وتطلعاتهم، فهذا المنهج يملك في ثناياه أسباب قوته، ولا يحتاج منا إلا إلى فهم وتطبيق فقط. عندما تختلط الأمور ويصبح غير المقدس مقدسًا، عندها نحتاج إلى وقفة جادة مع النفس تعيد الأمور إلى نصابها، فالرجال رجال، وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم. وفعل الصحابي في الأمور الاجتهادية حجة عليه، وليس حجة على الأمة، ومن أخطأ فقد أخطأ، فهذا عمر يقول أخطأ عمر وأصابت امرأة، وهو عمر وهو من قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ملهم أو محدث، بمعنى أن قوله كان يوافق الصواب في الأعم الأغلب، ومع ذلك يدرك هو بفطنته أنه في هذا الأمر أخطأ، ويتراجع وانتهى الأمر لا قداسة ولا تعنت بالمنهج.
كثير ما ظلم المنهج في الحياة، وأحيانًا كثيرة يظلم العدل نفسه بسبب الرجال، والله يسوق الآية تلو الآية ليقول لنا، بأنه لا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، ولكن هذه التربية تحتاج على ما يبدو إلى المربي، وهناك مراحل في الحياة كان فيها الأمر واضحًا، ففي الصحيح كما هو معلوم، بأن مصير البشر بيد خالقهم وليس بأيدينا، ولكننا نتكلم في التصرف المجرد، ونحاول فهمه والحكم عليه، بعيدًا عن فهم كافة تصرفات الشخص أو تقييمها، لا قدسية لثوب أو لحية أو عالم، القدسية هي للمنهج، فمن خالف فقد خالف ومن وافق فقد وافق، فالأمر هو لهذا المنهج وليس للأشخاص مهما بلغوا، ولذلك الأمر يحتاج إلى توضيح، نعاني في هذا الزمان من اختلاط الحدود والمفاهيم، ولذلك يجب على كل واحد منا فهم المنهج، وفصل المنهج عن الرجال وعدم الخلط في المفاهيم.
عندها تتحقق النصرة لمن يسعى في هذا السبيل الذي هو سبيل الله ورسوله، لأن هذا السبيل هو ما أراده الله، وعندما لا نجد حرجًا في تقييم أي عمل لأي شخص أو جماعة أو فئة أو طائفة، سواء كان انتصارًا أم هزيمة المهم برأيي هو المنهج، والمنهج هو العدالة في التعاطي مع الشخص سلبًا أو إيجابًا بحسب ذلك الموقف، وهذا أيضًا ليس حكمًا على النهاية والمصير حتمًا، وبعيدًا عن فهم كافة تصرفات الشخص أو تقييمها.
ما زلت أقف مع كثير من مواقف الصحابة باستغراب، فهذا يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد قصة تأبير النخل وبأن الأمر لم ينجح، والرسول يقول له بأنكم أعلم بأمور دنياكم، وعلى ما ورد في قصة الحباب بن المنذر في موقعة بدر من ضعف، ولكن كما فرق البخاري بين ما رواه في صحيحه وبين ما رواه في غيره، فلا يجد أهل العلم حرجًا في التعاطي مع الروايات الضعيفة في مواقع معينة، وهنا ونحن نريد أن نوضح منهجًا، هو منهج الصحابة في التعامل مع أوامر الرسول ومنهج ربنا، وحتى مراجعته كما حدث من عمر في أكثر من موقع، وقصة الصحابية خولة بنت ثعلبة في موضوع الظهار، فقد كان الصحابة يراجعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يفرقون بين أوامر الله التي لا ينبغي لمسلم ولا مسلمة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة فيها، وبين تلك الأمور التي هي محل رأي واجتهاد.
الرسول ولى خالدًا رضي الله عنه بعد إسلامه مباشرة، وقال لمعاوية إذا وليت أمر المسلمين فاتق الله واعدل، وأرى في هذه إشارة واضحة لتهيئة وتحذير معاوية، فالكلمات لا تذهب هباءً، وكيف إذا كانت ممن لا ينطق عن الهوى، ما أدين به أن الرسول كان قد اطلع على ما هو كائن إلى يوم القيامة كما في حديث البخاري وغيره، ولكن هذا الاطلاع ليس إطلاعًا تفصيليًا كما أشار إلى ذلك أكثر من عالم، ولكن هذا الاطلاع جعل الرسول صلى الله عليه وسلم قادرًا على أن يحدد للأمة المسار الذي يجب أن تسلكه حتى تنجو، ومع ذلك كان الرسول صلوات ربي عليه يسعى للمشورة، ويصنع القادة، ويعزز روح المسؤولية في أصحابه، بل وصل به الأمر في غزوة أحد إلى تنفيذ رأي الأغلبية، خلافًا لما يراه وما يريده وذلك بالخروج وملاقاة قريش خارج حدود المدينة، التي رأى في المنام أنها درع حصينة، ورؤية النبي حق كما نعلم، وكل ذلك صناعة وتهيئة للمسلمين لتحمل المسؤولية، وإدراك إبعاد القرارات ومآلاتها، وكان لغزوتي أحد والخندق أثر كبير في النضج الحربي والسياسي.
وصناعة مجموعة من الرجال في المقابل قادرة على أن تختار تلك الخيارات السليمة التي تخدم دعوتها، وتحدد من يصلح ومن لا يصلح، وكان يوظف معرفته هل يسلم هذا أو ذاك لمصلحة دعوته، وقادرًا على توظيف كل تلك المعلومات لمصلحة دعوته، فتشعر بالرعاية الإلهية في هذا الأمر، ومع ذلك كان الوحي لا يتأخر في تصويب أي أمر أو فعل يخالف المنهج، فعاتبه الله في الأعمى، وهذا كله من أسباب قيام هذه الدعوة، وبدون مقومات تقريبًا وانتشارها هذا الانتشار السريع.
فنقول مثلًا معاوية رضي الله عنه أخطأ، في جعل الخلافة ملكًا وحصر الملك في ذريته، فهذه مخالفة صريحة للمنهج، هو صحابي نعم وله فضله نعم وله وله، وكل ذلك لا يعني بحال قدسية هذا أو ذلك كما قلنا، وهنا عندما نقول هذه الجماعة أخطأت هنا أو هناك، فهو من هذا الباب، ولكن كما نحكم على هذه الجزئية، نقول أيضًا بأن لهذا الصحابي أعمالًا جليلة، وكان له دور كبير في استقرار الشام سنوات طوال، وأمّره عمر رضي الله عنه الذي كان يصرف الولاة لمظلمة أو عدم كفاية أو حتى إذا شكاه الناس، وكان يفكر في عزلهم لأربع سنوات، لأن ما عندهم قد نفد، وإن كان فيهم ظلم أراح العباد منهم، وبقي في الخلافة إلى زمن عثمان رضي الله عنه، وهو أول من ركب البحر مجاهدًا، وكان له دور كبير في استقرار الحكم الإسلامي، والقضاء على الفتن التي انتشرت زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما.
وهنا القداسة هي لهذا الدين فقط وليست لأي شيء غيره.