نبض البلد -
حاتم النعيمات
عالج بيان وزارة الداخلية، الذي تم بموجبه حظر تنظيم الإخوان المسلمين في الأردن، عدة أبعاد إجرائية مهمة، لكنه ركّز بحكم اختصاص الوزارة على البعد الميداني الأمني وعلى محاصرة الدعاية الإلكترونية والإعلامية التي يحترفها التنظيم. مع ذلك، تضمّن البيان دعوة واضحة للأردنيين لتحمّل مسؤولياتهم في مواجهة فكر هذا التنظيم وردّات فعله المتوقعة؛ فالتنظيم يتمتع بامتداد شعبي عمودي عميق، وبعد خارجي أفقي واسع، ولا يمكن مجابهته بالمنع الميكانيكي فقط.
للتنظيم استراتيجيات متعددة في المواجهة، من أبرزها رفع شعار "نحن الفضيلة والفضيلة نحن”. ومن خلال هذا الشعار، يرفع أعضاؤه الكرت الأحمر في وجه كل من يحاول مناقشة سلوكهم، ليصوّروه وكأنه عدو للفضيلة. ظهرت هذه الاستراتيجية بوضوح في ردودهم على قرار الحظر، حيث سعوا إلى ربط تنظيمهم السياسي بصفات مثالية اجتماعية، مثل القول إن أعضاؤه لا يدخنون ولا يتعاطون الممنوعات كما تحدّث أحد نوابهم في الأردن على إحدى القنوات الخارجية، وكأن النقاش تربوي وليس سياسي وكأن هذه الخصلة السلوكية ماركة مسجلة باسمهم. وفي نفس السياق أخذ بعضهم يروّج لفكرة مفادها أن زوالهم عن الساحة يعني زوال فضيلة كالتضامن مع غزة -على سبيل المثال لا الحصر- حيث نشر أحد قادتهم أن الشوارع خالية من المتضامنين مع غزة نتيجة لحظرهم، وكأن للتضامن شكل واحد ونوع نادر لا يملكه أحد سواهم. هذه الاستراتيجية استُخدمت في مختلف الدول التي رفضتهم.
الاستراتيجية الثانية تتمثل في التهديد المبطن. فمع كل حظر في أي دولة يلوّح أفراد التنظيم بأن عناصره الممنوعة من النشاط، ستلجأ إلى العنف بدافع الغضب وقد صرّح ذات النائب بذلك على قناة خارجية، وهذه بدون شك محاولة واضحة لابتزاز الدولة والمجتمع، ولهذه الاستراتيجية مرَكّبَة أخرى في الأردن تتمثل في الترويج لفكرة أنهم صمام أمان لاستقرار الدولة، ولا أعلم -بصدق- كيف يتواءم ذلك مع وجود تنظيم سري عمد إلى تصنيع الأسلحة خطيرة وتوليد موجات عاتية من التشكيك على مدى عقود.
أما الاستراتيجية الثالثة فهي استخدام المظلومية. ومن خلالها يسعى التنظيم إلى تقديم نفسه كضحية دائمًا، متجاهلًا أن الدولة الأردنية تعاملت معه، لما يقارب السبعين عامًا، بطريقة لم يحظَ بها أي فرع من فروعه في الإقليم؛ فقد كان الوحيد الذي يمتلك حرية الحركة حتى في فترات الأحكام العرفية، ولم تخلُ لجان الإصلاح السياسي ولا معظم البرلمانات من وجود أعضائه. بل إن الدولة ربما تغاضت، في مراحل معينة، عن ممارسات جعلت منهم إمبراطورية سياسية ومالية وتنظيمية لسنوات طويلة، وأدى ذلك إلى أضعاف التيارات السياسية الأخرى التي تحاول الدولة ذاتها اليوم أن تستنهضها لتعبئة الفراغ الكبير الذي سيتركه التنظيم في الساحة السياسية. ويُعدّ استغلال المظلومية وربطها بالسرديات الدينية من أشد أدوات الاستعطاف تأثيرًا حيث يداعب ذلك شجون البعض وعواطفهم ويسير بهم إلى نسيان فداحة ما كُشف عنه في الخامس عشر من نيسان لهذا العام ويشوش على مبدأ مهم في السياسة وهو عدم الارتباط بالخارج.
من خلال هذه الاستراتيجيات، تمكن التنظيم من تهشيم جزء من صورة الدولة في الذهنية العامة، وهذه خسارة كبيرة بالمناسبة. وقد برز آخر مظاهر هذا النهج في محاولتهم المزاودة على موقف الأردن تجاه القضية الفلسطينية، مستخدمين بشاعة العدوان على غزة لتكون قوة دافعة لمغالطة تُشعر المتلقي بأن الأردن شريك في جرائم الاحتلال، وعليه، خرجت الهتافات التي تطالب بوقف الجسر البري المزعوم والمطالبات معاهدة السلام التي لم تأتي من ترف يل بعد سلسلة من الحروب والمعارك، ووصل الأمر ضمن هذه الاستراتيجيات إلى محاولة إقناعنا أن كشف مجموعة التصنيع الأخيرة تم بالتعاون مع أجهزة أمنية اسرائيلية، وأن هذه الأسلحة كانت لدعم تحرير فلسطين، وغيرها من الأوهام، كل ذلك مع تغاضي كامل وصمت مطبق عن أن الأردن كان ولا يزال يعرقل أهم مشاريع الاحتلال، وعلى رأسها التهجير القسري. تخيلوا أن من يمنع شطب القضية الفلسطينية ويساندها مدان ومن يتاجر بها لكسب الشعبية بطل!
صحيح أن حظر التنظيم جاء بموجب أحكام القانون، وبعد تقديم الأدلة والاعترافات والوثائق، ولم يكن فيه أي نوع من التعسف، خاصة بعد المهَل الطويلة ومحاولات تصويب الأوضاع والنصائح الرسمية التي امتدت عبر عقود؛ إلا أن التنظيم لا يرى ذلك كافيًا لأنه يرى نفسه أكثر شرعية من القانون ذاته، ولا ننسى تصريح أحد قادته ذات يوم عندما طُلب منه تصويب أوضاع تنظيمه القانونية أنه لا يحتاج إلى ذلك لأن لديه ترخيص شعبي، في إشارة إلى أنهم لا يحتاجون القانون أصلًا. فهل هناك استعلاء تنظيمي واستقواء على الدولة أكثر من ذلك؟. لا تفسير لذلك إلا أن التنظيم يريد التعامل مع القانون والدستور بشكل انتقائي حسب مصالحه.
كل ما ذُكر أعلاه يتم الآن بحركة من بعض النواب الذين يملكون حصانة بدعم من منصات ومواقع وحسابات خارجية، وهذا يجعل محاصرة الهجمة المضادة أمرًا يحتاج لتركيز وجهد من الجميع. لذلك، لا بد من تعزيز الرواية الوطنية، ولا بد من دعم كل من يدافع عن الأردن وتقوية الماكنة الإعلامية الأردنية عبر تعظيم دور الشباب الذين وقفوا مبكرًا ضد روايات الشر التي كانت وما زالت تصول وتجول في الفضاءات. وأخيرًا لابد أيضًا من الاستفادة من تجارب الدول الأخرى مع هذا التنظيم، ووضع خطة شاملة لتعزيز قدرة مؤسسات التنشئة الاجتماعية والثقافية على تحصين المجتمع ضد أفكارهم. المعركة يبدو أنها لم تبدأ بعد ولكن الثقة بأن دولتنا وشعبنا على قدر عال من المسؤولية والإدراك لمخاطر التهاون مع فكر وسلوك هذا التنظيم.