لقد استنزفوا صبر الدولة

نبض البلد -

حاتم النعيمات

لا تتخذ الدول الرصينة قراراتها "الحاسمة” من أجل تحقيق مكسب واحد فقط، وبطبيعة الحال لا تتحرك إلا عندما تتراكم المسببات، والأردن من هذه الدول التي أثبتت أنها تملك من الرصانة ما يكفي لإدارة تقلبات المحيط والداخل.

تواجه الدولة الأردنية، منذ سنوات، محاولات جادة لضرب الاستقرار وإضعاف الدولة خدمةً لمشروعين: إيراني بإنشاء خط إمداد للضفة بعد خسارة غزة، وإسرائيلي لتمرير مشروع التهجير والتوطين.

الاستهداف ليس جديدًا، ف بيان دائرة المخابرات العامة تحدث عن مخطط بدأ عام 2021، وطول المدة هنا يعطي دلالات واضحة على أن الموضوع ليس وليد انفعال هنا أو غضبة هناك، ويؤكد أن هناك من يخطط لخلق الفوضى في الداخل، وهذا ما اعترف به (أمام الكاميرا) أعضاء الخلايا الإرهابية المتورطة.

الظهير "الشعبوي” لهذا العمل السري ارتفع صوته منذ بداية العدوان على غزة، حيث تصاعدت لغة التخوين والتشكيك والتحريض، مما أفضى إلى وضع العدسة على بعض الناشطين في سياق احتكار التضامن مع غزة، الظهور إلى العلن فضح توجهات كبار هذا التيار وكشف نواياهم تجاه الدولة.

الاعترافات التلفزيونية لعناصر الخلايا جاءت في ذات السياق الذي اعترفت فيه جماعة الإخوان المسلمين سابقًا على لسان اثنين من قياداتها في تصريحات لوكالة "رويترز”، حيث أكّدا أن أعضاء تابعين للجماعة قد تورطوا في تخزين أسلحة ومتفجرات فيما عُرف بقضية "ماركا” في شهر آذار/مارس من العام الماضي. تبع ذلك عملية تسلل لعنصرين من الجماعة عبر الحدود الغربية إلى داخل الأراضي المحتلة، ولقيت العملية مباركة من الجماعة عن طريق تصريح تلفزيوني للناطق باسمها عبر "فرانس برس”، قبل أن تُخفّض الجماعة موقفها من "المباركة” إلى مستوى "عمل فردي” لعدد من أعضائها، كالعادة طبعًا. ما كُشف عنه بالأمس بجهود دائرة المخابرات العامة هو مجرد امتدادٍ لنفس السلوك الإخواني، ولكنه كان الحلقة الأخيرة في مسلسل صبر الدولة.

من الواضح أن اليد العليا أصبحت للمكوّن "الحمساوي” داخل جماعة الإخوان غير المرخصة في الأردن، وهذا يبدو جليًا من خلال تصرفات الجماعة بعيد تعزيز حماس لسلطتها في غزة على أثر عدة حروب مع إسرائيل. المكوّن الحمساوي معروف بارتباطه بإيران وتبعيته لها. فقد نقلت وكالة "رويترز” عن مصادر أمنية أردنية أن عمليات تخزين الأسلحة التي ضُبطت في ماركا وغيرها كانت تهدف لاستخدامها داخليًا في أعمال ضد الدولة، وأن جزءًا منها كان مخططًا له أن يُهرّب إلى جماعات تابعة لإيران في الضفة الغربية.

طوال الفترة الماضية، كانت هناك مقاربات داخل الدولة لتحديد مصير الجماعة، إلى أن كشفت دائرة المخابرات بالأمس المخطط بالكامل، فأصبح القرار السياسي الأردني في مواجهة الحسم، فالواضح أن الجماعة أصبحت أداة تابعة للمشروع الإيراني وتحت أمر تيار في حركة حماس بشكل لا يمكن تقبله. ولمن لا يعلم، فإن كافة التحركات الميدانية، بشقيها الاحتجاجية والمسلحة، كانت بأوامر أو تحريض مباشر من حماس عبر مجموعات على تطبيق "تيليغرام”. أي أن ركن التبعية للخارج قد أصبح حقيقة راسخة سواء مع إيران أو مع حماس.

الدولة الأردنية وصلت إلى قناعة راسخة بأن وجود الإخوان ضمن الخارطة السياسية المحلية مكلف جدًا على الوضع الأمني، وعلى مسيرة الإصلاح السياسي، وعلى الوعي العام والعلاقة بين الناس والدولة، وأن هناك تكلفة أخرى خارجية، فالتنظيم لم يعد له سياق عربي، خصوصًا بعد خسارته لدول الربيع العربي، وبعدما حدث لحماس في فلسطين بشكل عام (حماس من أهم مشاريع التنظيم الدولي للإخوان)، وبعد اتخاذ دولة الكويت إجراءات إصلاحية حدّت من أنشطة الجماعة السياسية والمالية هناك.

على وجه آخر، فقد لعبت الجماعة دور قناة اتصال مع حركة حماس لإيصال الرسائل الأردنية للحركة ولتمرير بعض التفاهمات، وهذه القناة لم تعد مهمة اليوم بعد ما خرجت من المعادلة بعد سنة ونصف من العدوان على غزة. كما كانت الجماعة تلعب دورًا مهمًا آخرًا في تحريك الشارع (بحكم شعبيتها غير المكلفة فكريًا)، وفي ذلك دعم في بعض المناسبات للحركة السياسية الأردنية الخارجية فيما يخص القضية الفلسطينية بالذات، وهذه الخاصية أيضًا لم تعد ذات قيمة في ظل تشكّل قوى وسطية وطنية أردنية قادرة على إنجاز هذا الدور.

يبدو أن الدولة مقتنعة اليوم أن ضرر ترك الجماعة على وضعها الحالي أكبر من ضرر تحجيمها، لأن تحجيمها سينعكس إيجابيًا على عدة ملفات داخلية أهمها: أولًا، مشروع الإصلاح السياسي (بكل أبعاده) وذلك بتحييد أي تيار يتبع للخارج، ثانيًا، سيجعل السياسة الخارجية الأردنية أكثر تجانسًا مع سياق المنطقة الرافض لوجود هذه الجماعة، ثالثًا، سيُثبّط طموحات الدول الإقليمية في تنفيذ المشاريع في أو عبر الأردن. باختصار فقد ثبت للجميع أن هذا التنظيم هو عبارة عن مقبض تحكم للمشاريع الخارجية.

فقدان إيران للنظام السوري أدى إلى ظهور طرح من قبل المحافظين هناك يسعى لخلق خط إمداد بديل عبر الأردن، بحيث يصل مباشرة من العراق إلى الضفة الغربية. وإيران ذاتها تعلم أن الأردن لن يكون خط إمداد لها إلا في حالة الفوضى – لا قدّر الله – لذلك فإن كل ما كانت تقوم به جماعة الإخوان من أعمال تخزين للأسلحة وتشكيل خلايا وتحريض، أساسه خدمة إيران ومشروعها، تمامًا كما خدمت الجماعة تركيا خلال ما سُمي الربيع العربي.

المطلوب اليوم هو الوقوف خلف الملك، والجيش، والأجهزة الأمنية، وعدم تبني ردة الفعل التظلّمية التي ستصدر عن الجماعة. فالدولة الأردنية لم تظلمهم، وأعطتهم مساحة كبيرة وشاسعة من الحركة، وصبرت عليهم لسنوات، لكنهم لم يفهموا أن هذه المساحة لا تعني التمرد أو التطاول على الدولة والاستقواء بالخارج.

ستبدأ خطابات الإنكار والتظلُّم والإدعاء بأن هذه الأسلحة المضبوطة كانت "ستحرر" فلسطين لو تركت، وكأن الدولة الأردنية-أو أي دولة- تقبل أن يسرح السلاح ويمرح على أرضها دون ردة فعل. لذلك فالمتوقع أن تكون هناك هجمة ارتدادية يجب أن نكون في مستوى التصدي لها.