لقد حبا الله الأمة الإسلامية بعناصر سلامتها وإستمرارها، واعتقد جازما بأن هذا مرتبط بالرسالة التي تحملها هذه الأمة للأمم كافة، إبيضها وأسودها وأحمرها، عربها وعجمها وشرقها وغربها، ولكن كيف هذا،، والأمة تعيش اليوم أيام تعد الأسوء عبر تاريخها، وهي بين أعداء وأعداء، بين أعداء بدأوا وما زالوا يكيدون لهذه الأمة برغم ما أصابها من الأذى، ما زالوا يسعون في تشتيت صفها، وسرقة مقدراتها، وتُملك أمرها والسيطرة عليها.
لكن هل هذا حال غريب وبدعا من القول بين الأمم، أم هو الوضع الطبيعي، كلما قويت أمة تسلطت على من حولها، إلم يحدث هذا منذ زمن الرومان والفرس والفراعنه والإسكندر، ونحن المسلمون مع فارق واضح في مفهوم الفتح الإسلامي طبعا ليس هذا مكانه، وبعدها الحملات الصليبية والحملات الإستعمارية التي بدأتها أوروبا في مرحلة متقدمة بداية القرن الخامس عشر ، وقسمت البرتغال واسبانيا العالم الجديد بينهما على أنهما المالكتان له بناء على معاهدة تورديسيلاس 1494م، وهنا يحضرني نزاع جديد على ملكية اراضي القمر والكواكب المحيطة بناوصولا إلى المريخ، وصراع السيطرة الإستعمارية والحلم الذي لم ينتهي.
ولكن مع كل فترات الرخاء التي مرت بها الأمة الإسلامية، كانت هناك لحظات فقدت فيها أمرها وسيطر عليها أعداؤها ولكنها لم تفقد تلك الجذوة التي تعيد الحياة لها، وربما خصها الله بهذا الكتاب الذي يحفظ عليها منهجها وبيضتها وفكرتها وعقيدتها، ويحمل تلك الجذور التي توحد أمرها وصفها وتؤلف بين أفرادها، كلما مرّ الزمان، ظهر من ينهل من هذه المناهل الصافية وهي الكتاب والسنة ويعيد للأمة دينها، وهذا ما نص عليه الحديث الصحيح.
تتعرض الأمم بشكل دائم لهزات ومواقف عنيفة، وما من أمة إلا وتمر بهذه الظروف، فهي أزمنة تصعد وتهبط وتأخذ معها الأمم في طريق صاعة وأخر هابط، ولكن في زحمة من الأحداث تحدث تلك اللحظات التي تشرح الإسباب، لتلك العقول التي تُلق السمع وتسعى جاهدة في النظر والتحليل والفهم، ومنهم إبن خلدون وإبن تيمية، وفي زماننا هذا خرجت زمرة من العقول النيرة التي تسعى لإعادة الأمة إلى جادة الصواب.
وقفت مرة مع الأتراك وكمال أتاتورك ونحن العرب، نضع هذا الرجل في مكان مختلف تماما عن المكان الذي يضعه فيه الأتراك، ثم بعد قراءة متأنية للأحداث التي مرت به الدولة التركية بعد سقوط الحكم العثماني، أدركت بأن هذا الرجل هو في نظر الأتراك السبب الرئيسي في بقاء تركيا موحدة تحت راية واحدة وحكم واحد، نعم سيجد البعض أن النتائج التي وصلت إليها تركيا على يد هذا الرجل سيئة وأنه أضاع دينها وأخلاقها، ولكنه في نظر الأخرين السبب في بقائها موحدة وقادرة على العودة أمة من جديد، وهنا اقف لتوضيح الموقف أكثر مع الحالة الصينية وكما ذكر الباحث وضاح خنفر في محاضرة له، مارست الدول المستعمرة قرنا كاملا من المهانة على هذه الأمة، وكان ذلك على يد الإنجليز والفرنسيين ومن تحالف معهم من الدول المستعمرة وأخرهم في الركب الإستعماري أمريكا، وكلهم حاولوا إبقاء الصين في هذا الوضع، حتى تسهل السيطرة عليه كما كانوا يسيطرون على الهند، وحاولوا فرض حالة الإنهزام والإنهزامية والسيطرة العقلية والسيطرة الإستعمارية عليهم، حتى لا تنهض هذه الأمة التي لم تمارس الإستعمار يوما، ولم تعرف هذه المفاهيم إلا على يد الإستعمار الأوروبي الأمريكي.
وهنا عندما إنتفض هذا المارد على يد ماو تسي يونغ فرّ أزلام الإستعمار إلى تايوان، وبدأت مرحلة جديدة من الصراع الإستعماري لإعادة السيطرة والهيمنة الغربية ومصطلح هيمنة هنا هو لخنفر، أعود لأتاتورك لأجد أن الموازنة في تاريخ الأمم تختلف فهي لا تقاس بجيل ولا أجيال ولا بقعة ولا مدن، ولكن تقاس بالأمم، وهنا عندما كانت القيصرية الروسية تقوى كانت تسعى للتوسع وتحاول السيطرة على المناطق المحيطة، وهذا ما فعلته المجر والنمسا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا والبرتغال وهولندا وحتى بلجيكا بملكها وتاريخيه الأسود في الكونغو، والذي قتل ما يقرب من خمسة عشر مليونا من البشر، تحت التعذيب والإضطهاد والعمل في مزارع المطاط، وقطع يد النساء والأطفال والعجزة، لعدم تحقيقهم النسبة اليومية الي تشبع طمع ملك بلجيكا من المطاط، حتى ثار الرأي العالمي نتيجة للصور المسربة، عما قمت به هذه الدولة المارقة الفاجرة، التي لا تعرف الإنسانية في المناطق التي إحتلتها، وليس بعيدا عن هذه الصورة كل هذه البلدان المتوحشة الأوروبية، والتي لم يعرف العالم لها مثيلا في الوحشية، إلا اليابان عندما حاولت أن تكون إستعمارية مثلهم.
ولكن ما قصة الصين هنا ولماذا أتاتورك، وكيف تعلم الغرب درسه وسعى لعدم تكرار الخطأ في العالم العربي، والعالم العربي أكثر خطورة بالنسبة لهم، فهو قلب لعالم ينبض بالحياة يجمعه دين ولغة، وفيه من الخيرات والثروات والسكان والحضارة والتاريخ، ما يشكل نواة وخميرة جاهزة لأي مشروع حضاري، يسعى من جديد لإعادة الروح لهذه الأمة.
وهنا تفتق الذهن الشيطاني الإستعماري الغربي، بفكرة جديدة التقسيم، على أساس الإعراق والجغرافيا، وخلق مناطق نفوذ جديدة وسلطات جديدة، تسعى كل منها للحفاظ على نفسها وعلى من تحت يدها، هذه المنطقة كانت مدن ونقاط نفوذ ومناطق، ودول في بعض الأحيان ولكنها لم تكن يوما إلا أمة واحدة.
تتحد عندما تدلهم الخطوب أو تعظم المخاطر، أو تسعى بصورة ما لصورة حضارية جديدة، كانت نقاط القوة تنتقل من منطقة إلى منطقة، جاذبة معها كل عناصر القوة من العلماء والرجال والسلاح والمال، ورجال العلم وصناع الحضارة، لذلك كان إبن خلدون ينتقل من الأندلس إلى مصر، وانتقل العز بن عبدالسلام من دمشق إلى القاهرة، وهنا اعود لهذا الذهن الإستعماري الشيطاني الذي يسعى للهيمنة على الدول، وكيف أنه يتحقق له ما يريد إذا كانت هذه المنطقة دول مقسمة، وليست دولة واحدة مثل تركيا أو الصين أو الهند او حتى اليابان، وكيف أن هذه الدول المستعمرة مع انها كانت منذ الأزل مقسمة مفرقة حتى في الثقافة واللغة والدين سعت للوحدة، وفرضت على غيرها التقسيم، وكيف أن الحرب الأهلية الأمريكية، سعت لتوحيد الأمريكيتين وذهب ضحيتها حوالي ثمانمائة ألف إنسان أمريكي من أجل الوحدة، وهي من تفرض على غيرها التقسيم.
يدرك الغرب أن السباحة ضد التيار مستحيلة، ولها تكلفة عالية وإمكانية النجاح فيها محدودة جدا، وما حاولت الحركات الإسلامية فعله، منذ لحظة تأسيسها كان السباحة عكس التيار، ولذلك كانت تصطدم بالعديد من المعيقات، وكانت تجاربها دائما تنتهي بالفشل، ولكن هل تستطيع هذه الحركات أن تعيد تموضعها لتصبح حركتها منسجمة مع حركة الشعوب، وتصبح محصلة القوى بالنسبة لهم واحدة، بدل أن تستهلك نفسها وقوتها وفكرها ورجالها في السباحة ضد التيار.
الغرب ذكي وحقير وخبيث ونذل، ولكنه ككل الأمم التي مرت على هذه الأرض، يسعى لمصحلة جنسه والهيمنة على الأخر، وفرض ما يحقق له أعلى المكاسب، ولكن نحن في المقابل نصطف مقابل بعضنا ونتخدق ضد بعضنا، ونساعد الغرب على تحقيق أهدافه فينا بأيدينا، ومن زعم أن الخطأ كان مرة وانتهى، ووصلت الأمة نتيجة ذلك إلى ما وصلنا إليه، هو يكرر نفس الخطأ بالتخندق والتمترس خلف أفكاره والتصلب وراءها، ظانا كما ظن الأولون أنها الطريق إلى تحرير الأمة، ولكن...
نحن نعلق من جديد في الحلقة المفرغة، ونخسر من جديد والمنتصر هو الغرب، أما آن لهذه الحلقة أن تنكسر، ونسعى لخلق حالة جديدة، نتمترس فيها شعوبا وقيادات دولا وحكومات معا، لنحقق معا، ما لم نستطع تحقيقه كأفراد منذ بداية هذا القرن.
وهذه الصورة ممكنة إذا أوجدنا حلولا جديدة وافكارا جديدة، لا تأخذ من الموجود، بل تسعى لتبني على الموجود، للوصول إلى حالة جديدة تتفق فيها الدول العربية والإسلامية، وغيرهم ممن تتفق مصالحنا معهم، وهي صاحبة رقم صعب من حيث العدد والسكان والجغرافيا، عندها سيجد هذا الغرب المارق نفسه محاصرا بقوى دولية، قادرة على رد العدوان والمقاطعة وفرض ما تريد بالقوة، وبنظام عالمي جديد لا تحكمه هذه القوى الغربية الامبريالية المارقة.
.