نبض البلد - د. حازم قشوع
تقود سياسة اعادة توطين الصناعات وجلب الاستثمارات للداخل الأمريكي منهجية عمل تقوم على إعادة التموضع الاقتصادي، عبر الاستغناء عن المجتمعات الخارجية فى التصنيع ذات العمالة البشرية الرخيصة، للعمل لإعادة بناء قوام المنتج الامريكي بما يتيح له المنافسة والانتشار السوقي، وهو ما يتطلب تخفيض سعر صرف الدولار لكي يتنسى للصناعات الأمريكية المنافسة بالأسواق العالمية، بما يجعلها قادرة لتتفوق على المنتجات الصينية والأوروبية كما التركية والبرازيلية أو الكورية واليابانية، التي راحت تخط خطوط جديدة مع الصين من منطلق مسعى أمريكا اليه لكى تمتلك حيز منافس برتبة متحكم في الأسواق العالمية، لكن هذه السياسة تجعل من خصوم أمريكا يصبحون أعداء، وهو الاستنتاج الذي جعل من عمق الدولة الأمريكي ينتفض قبل انتهاء مدة الـ 100 يوم الأولى.
وعلى الرغم من أهمية هذا البرنامج من منظار الرئيس ترامب، إلا أنه يحتوى على مخاطر كبيرة وتحديات داخليه وخارجيه عميقة، لاسيما وان هذه السياسة الاقتصادية ستعمل على ارتفاع معدلات التضخم، وهو التحدى الذى سيجعل من الناتج القومي الأمريكي يعيد ترسيم ارقامه السوقية ليكون عند حدوده الحقيقية من دون صور انطباعية، الأمر الذي سيولد انعكاسات سلبية على القيمة السوقية للأسهم والسندات فى " وول ستريت " كما في " سيليكون فالي " على المنظور القريب والمتوسط، وهي محظورات راحت تبينها بعض القراءات الخاصة لهذا البرنامج الذي يشوبه الكثير من المحذورات كما بينتها المظاهرات التى اجتاحت كاليفورنيا كما ونيويورك وبوسطن وشيكاغو وواشنطن لتقول "سيدي الرئيس كفى".
فالولايات المتحدة لن تكون قادرة لوحدها بعد فكفكة رواسيها الداعمة للدولار على بناء جمل اعادة تموضع بعدما خرجت من رابط " البترودولار " و بات النقد الأمريكي معرف سياسيا بواقع النفوذ الأمريكي، ولا يوجد له حواضن سانده اذا ما اخذت الدول تتداول عملات نقدية أخرى لها احتياطياتها وأصول نقدية، وهذا ما يجعل شرعية الدولار تدخل فى تحدى عميق في حال فقد الدولار مشروعيته.
وفى ظل السياسة الاقتصادية الجديدة، التى راحت فيها واشنطن لتعيد بناء علاقاتها العضوية مع الاتحاد الأوروبي والصين ومعظم دول العالم نتيجة سياسات البيت الأبيض "الدرع الواقي"، عندما راحت فيها تفرض رسوم جمركية على المستوردات وتحد من وجود العمالة الوافدة التي كانت تقوم عليها الثروه الزراعيه والحيوانيه والعمالة الصناعية والخدماتية البسيطة، الأمر الذي سيجعل من عامل التضخم بازدياد كما سيجعل الأسعار تعيش فترة غلاء قبل أن تبدأ عملية الاستقرار، وهي الرواسب التى ستؤثر بالقطع على المواطن الأمريكي بشكل خاص وعلى من يدور في الفلك الأمريكي بشكل عام، كونه سيجعل القيمة الشرائية للدولار منخفضة وان كان سعر صرف الدولار سيبقى عن مستوياته المعهودة.
ذلك لأن مسألة تخفيض سعر قيمة الدولار لا تؤثر على أمريكا فحسب، بل ستؤثر على كل من ارتبط نقده بالنقد الأمريكي، وهذا ما يجعله شريك ويفرض على الولايات المتحدة أن تقدم له الدعم اللازم نتيجة تأثره المباشر بتبدل القيمة الشرائية للدولار، سيما أن هذه المجتمعات تعتبر الولايات المتحدة مرجعية اقتصاديه وماليه وتربطها علاقات استراتيجية مع أمريكا فى كثير من الجوانب السياسية والأمنية والعسكرية، التى تلزم أدبيا الولايات المتحدة وليس فقط قانونيا من التعامل معها كشريك تحمله ويحملها، وهو ما يستلزم مراعاته بطريقة مباشرة في سلسلة من الإعفاءات الجمركية واعتبار فضاءات هذه الدول هي فضاءات امريكيه حتى تكون قادرة للتخفيف من تبعات برنامج السياسة الاقتصادية الجديدة التي أخذ يحمل صيغة لمعادلة تخفيض سعر صرف الدولار.
إن نظرة الولايات المتحدة يجب أن تكون شمولية عند فرض رسوم جديدة على الدول، ولا يجب أن تكون اقتصادية صرفة فهنالك دول تخدم البرنامج العام بطريقه غير مباشره تثري الناتج القومي الأمريكي أكثر من الدول الاستثمارية، وهذا يجب اعتبار ضمنيا عند اصدار القرارات سيما وأن الادارة الامريكية لا تسعى لقيادة أمريكا بل تسعى لقيادة العالم، الأمر الذي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند بناء نماذج ومد جسور العلاقة الأمريكية بين الأمم سيما وأن الدول تمتلك خيار آخر غير خيار العلاقة الاستراتيجية مع أمريكا برابط عضوي مع الدولار، وهذا ما يمكن تغير فحواه عبر "سلة عملات"، وهو الخيار الذي سيؤثر كليا بطريقة أو بأخرى إذا ما تم انتهاجه على مشروعية الدولار ومكانته.
ان الاردن الذي تربطه علاقة عضوية و استراتيجية مع الولايات المتحدة يأمل أن يأخذ نموذجه فى عين الاعتبار، سيما هو يقوم بضبط مناخات الاستقرار في هذه المنطقة الحيوية للولايات المتحدة كما تربطه علاقة امنيه وعسكريه معها، ويرتبط ديناره مع الدولار بطريقة تؤكد على توثيق هذه العلاقة، وهذا ما يجعل الاردن يمتلك أوراق استثنائية خاصة من المفترض أن تؤخذ بعين الاعتبار فى ظل معادلة تخفيض الدولار السائده، فان الاستقرار النقدي يعتبر من أهم عوامل أمان المجتمعات حتى لا تدخل المجتمعات برواسب الفوضى النقدية الخطيرة التي لا تؤثر على مضامين الاستقرار فحسب بل تؤثر على درجة الأمان الاجتماعي بشكل عام.