الأنباط-كارمن أيمن
في يومٍ يكون الأقرب لقلوب الأبناء، رُبَّما ليس لكونه يومًا للأُم، فكل أيَّامها أعياد، وإنَّما من منظور أنَّه يبقى كنوعٍ من الذكرى للاحتفال بالأُم وإبراز التقدير الذي تستحقّه جزاءً لمّا تقدِّمه من عطاءٍ وحُبٍ غير مشروط، فالجنّة تحت أقدامهنَّ ولا طعم للعيش دونهنَّ، وتزامُنًا مع الاحتفالات الجارية بعيد الأُم فقد سلَّطت الأنباط الضوء على قصَّتين تُمثّل المعنى الحقيقي للأمومة الذي تتصدّره عناوين التضحية والإيثار وإنكارالذات .
دورين في آنٍ واحد..تضحية ومواجهة
لم تكن الحياة وردية أو سلسة كما يعتقد البعض، وليس سهلًا أن تقوم الأُم بدورين في آنٍ واحد مُنذُ عمرٍ مُبكِّر، إذ أنعمَ اللهُ على هذه الأُم بطفلها الأوَّل بعد خمس سنواتٍ من المحاولات العصيبة للإنجاب رغم عدم وجود أي مشكلات، ولأنَّ الحياة لا تُعطي كُلّ إنسان ما يتمنّاه بالشكل الكامل فإنَّها فقدت زوجها بعد إنجابها لطفلتها الثانية بأيامٍ قصيرة دون أي سابق إنذارمُتلقيَةً الخبر كالصَّاعقة ومُحاوِلَةً تغيير الحقيقة أو تزييفها رافضةً إيَّاها بشتّى الطرق.
كان من الصعب تربية أبنائها في ظلِّ بيئة غير داعمة ومُفكّكة إلى حدٍّ ما، لا أحد فيهم يُلقي بالًا لأحدٍ آخر، تحدَّت مصاعب الحياة وواجهتها قائلةً "ما كنت بعرف كيف رح أكون أُم قوية وقد حالي لولا وجود ربنا" فـ بقوِّة ودعمٍ الهي أولت جُلَّ اهتمامها بتنشئة أبنها البالغ من عمره السنة وابنتها حديثة الولادة بأفضلِ صورةٍ دون أن تشعرهم بفقدان أبيهم، لاسيَّما أنَّ العائلة وكل ما يُحيطهم من أفراد لديهم من الأباء الأحنُّ والأقرب.
بكلماتٍ مؤثِّرةٍ ردَّدتها "أحلى خمس سنين بحياتي كانوا خلال فترة زواجي منه"، ففي معظم الأوقات لم تكن لتجد المُعيل الذي يساندها في إتمام مهمَّة التربية قائمةً بجميع المهمات بمفردها، فكانت المُمرِّضة لهم في أوقات المرض، والمُعلِّمة في أوقات الدراسة، إذ سعت جاهدةً لتدريسهم ومتابعتهم باستمرارخلال مراحل دراستهم لضمان أن يكونوا متفوِّقين كما كان حُلمها يومًا أن تكون، والمُرشدة في أوقات الأزمات، والصديقة التي تحتوي أبنائها عندما لا يجدون أحدًا، والمُربّيّة الحريصة على حماية أبنائها.
وبطبيعة الحال، افتقدت الكثير من المشاعر بعد هذه الحادثة واستمرت الصدمة لفتراتٍ طويلة، لكن لم يمنعها ذلك من مقاومة الحياة ومواجهة الصعوبات، فعلى الرغم من حاجتها لقضاء أوقات المناسبات والاحتفالات مع من يشعرها أنَّها مع عائلة كبقيّة العائلات إلأَّ أنَّها لم تحاول نقل هذه المشاعرالمؤلمة لأبنائها ساعيةً لإسعادهم في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ وتقدير إنجازاتهم كبيرها وصغيرها بمُكآفآتٍ ترسم عبرها البسمة على وجوههم، مُقدِّمةً لهم الدعم المعنوي والمادّي.
اليوم، وبعد سنواتٍ طويلةٍ من عُنق المُعاناة والوِحدة بدأت الأُم تحصد ثمار تعبها بعد جُهدٍ جاهد، مُفتخرةً بأبنائها، فالشاب أصبح مُهندس اتِّصالات بعدما كان حُلمها أن يكون أبنها مُهندسًا، وابنتها صحفية متفوِّقة، تخرَّجت الأولى على دفعتها مُنذُ فترةٍ وجيزة وتُكمل الدراسات العُليا خاصَّة وأنَّها ترى حُلمها بعين ابنتها كون أنَّ طموحها كان يتمثَّل بأن تُصبح إعلامية عندما تكبُر ولم تستطع نظرًا لظروف الحياة القاسية، متفوِّقةً بتربيتها أبنائها على الكثير من العائلات المُحيطة والمُقرَّبة منها ولايزال نجاحها بأبنائها في بدايته وما هو قادم أعظم.
هذا الطريق يُثبت أنَّ الأمومة ليست سهلة ولولا غريزة "الأمومة" لما حصدت ما حصدته اليوم رغم كل العثرات التي كانت في طريقها.
متلازمة الحُب.. مُعاناة دفعتها للنهوض بابنتها وأقرانها..
عواطف أبو الرُّب، أُم لفتاة تبلغ السادسة عشر من عمرها، مُصابة بمتلازمة داون وتدرس في الصّف التاسع في مدرسةٍ دامجة بين أطفال من شتّى الفئات، دفعتها حالة ابنتها لإنشاء جمعية نوعية وتُعتبر الأولى على مستوى الأردن يؤسِّسها أهالي متلازمة داون بانطلاقةٍ عربيةٍ شملت العالم العربي من منطلق ضرورة العيش الكريم والتوعية عن المتلازمة باعتبارها "فكرة مُعتمة" في بدايتها.
سعت جاهِدَةً لتوفير خدمة برامج تنمية القدرات منذ الطفولة المُبكِّرة لتقليص الفجوة بين العُمر الزمني والعُمر النمائي موضِّحةً مُعاناتها بعباراتٍ ردَّدتها "الخدمات لم تكن مُتوفِّرة إلَّا على نطاقٍ جدًّا ديِّق"، لافتة إلى أنَّ بحثها عن الدعم المادي لم يكن همَّها الأوَّل، فقد كانت الأولوية للبحث عن الدعم اللوجستي والمكاني "مكاني بينكم" ...
وتابعت "ربنا ما خلقهم عبث، ولا خلقهم ينتقم منّا"، "ربنا كرَّمنا بحياتنا لما بعتلنا إياهم"، حيث ترى فيهم القوّة والطَّاقة والقدرة على العمل بإنتاجية وإتقان خاصّة إذا قُدِّمت لهم الرعاية والاهتمام المُستمر.
وأضافت أنَّ ما يُزعجها منظور المجتمع للفئة بأنَّهم "لا يتفَّهَّمون الآخرين ولا يشعرون وأنَّ الأمر فقط مُقتصر لديهم على الابتسام الدائم"، إلأَّ أنَّهم في حقيقة الأمر مُرهفي الإحساس تؤثِّر بهم أبسط الكلمات والأفعال وتبقى محفورةً في ذاكرتهم.
بتحدِّياتٍ كبيرة، رفضت عواطف وضع صور لأطفال أجانب خلال إنشاء الجمعية في وقتٍ كان وجود أبناء من متلازمة داون "عار ووصمة" في المجتمع مواجِهةً العالم وواضعة صور أبنائهم وتدريباتهم ومراحل نموِّهم، فـ بكُلِّ فخرٍ واعتزاز قالت "أوَّل ما بلَّشنا، اشتغلنا على أولادنا احنا، وكانت كتير صعبة بالأوَّل".
لم تكن لديها المعرفة الكافية عن المتلازمة وطبيعة آلية تنفيذ خدمة التدخُّل المُبكِّر، فبذلت من الجُهد أضعافه للقراءة ولمتابعة الحالة نظرًا لقلّة تسليط الضوء عليها، ما أضطرها لترك عملها للتفرُّغ بالكامل للمهمَّات المُتعلِّقة بابنتها، لاسيَّما أنَّ ابنتها كانت في حالة صحّيّة حرجة.
وأشادت بدور جلالة الملك في توفيَر فرصة لإجراء عملية "القلب المفتوح" لابنتها بعدما كان الأمل من شفائها ضئيلًا لا يتعدَّى الـ10%، إذ أوضحت استياءها من تعامل الجهات المعنية مع ابنتها، فمنهم من كان ينظر لها بازدراء سابقًا وقال لها أحد الأطباء "بنتك اذا نفدت من العملية بتعيش لعمر 20 أو 25"، مُتألِّمَةً من هذه الجملة قائلةً "جملته كانت بتقتل".
ولفتت إلى أنَّ ابنتها تعيش حياة طبيعية وبحُرِّيّة تتمتَّع فيها بشخصيةٍ اجتماعية بعدما كانت تُعاني في صفوفها الأولى بالمدرسة و لم يكن دمجها بين الأطفال "أمرًا يسيرًا"، مُعزِّزةً دور المدرسة في دعمها ودعم ابنتها حيث كرَّموها في اليوم العالمي لذوي الإعاقة مُنذ ثلاثة شهور.
الأُم وعواطف، قصَّتين من مئات القصص التي تستحق أن تُروى وتُعرض في مجتمعاتنا الحاضرة، فما تبذله الأمهات هو حقًّا عظيم ولا يُستهان به، فلكُلّ أمٍّ منّا قصّة وحكاية..