نبض البلد -
《 بقلم الدكتور محمد طه العطيوي 》
الأردن يُحدد معالم الثابت والمتغير
في عالم عربي تصارعه الأجندات الخارجية وتنخرط نخبه في حسابات ضيقة، يبرز الأردن كحارسٍ للثوابت بلا مواربة. اللقاء الأخير بين الملك عبدالله الثاني والرئيس الأمريكي دونالد ترامب (شباط 2025) لم يكن مجرد لقاء دبلوماسي، بل كان إعلاناً صريحاً بأن عمّان لن تكون جزءاً من أي مسارٍ يفرط بالحقوق الفلسطينية أو يهدد أمنها القومي.
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل يستطيع الموقف الأردني أن يكون نموذجاً يُحتذى به عربياً، أم أن الانقسامات والتبعية للخارج ستظل سيدة الموقف؟
الأردن والقدس: خط أحمر لا يُجارى
منذ عقود، يحمل الأردن راية الدفاع عن القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية، ليس بدافع العاطفة فحسب، بل استناداً إلى وصاية هاشمية تاريخية وقانونية أقرها المجتمع الدولي. في لقاء واشنطن، أعاد الملك عبدالله الثاني التذكير بأن «القدس ليست سلعةً سياسية»، مردداً رفض الأردن لأي محاولة لتهويدها أو فصلها عن السياق الفلسطيني. هذا الموقف ليس جديداً، لكنه يكتسب أهمية استثنائية في ظل مشاريع التصفية التي تلوح في الأفق، مثل خطط "توطين اللاجئين" أو فرض إدارة دولية للقدس تحت ذرائع إنسانية.
السؤال المحرج هنا: لماذا تتراجع دول عربية كبرى عن تبني مواقف مماثلة، بل تتعامل مع القدس كملفٍ ثانوي في مفاوضاتها السرية مع إسرائيل؟
رفض التوطين: درس في السيادة
لا يخفى على أحد أن مشاريع التوطين القسري للاجئين الفلسطينيين تُعدّ أحد أذرع "صفقة القرن الجديدة"، والتي تسعى واشنطن وتل أبيب لفرضها عبر ربط إعمار غزة بتهجير سكانها. الأردن، الذي يستضيف نحو 3 ملايين لاجئ فلسطيني، يرفض أن يكون ساحةً لهذه المخططات، مؤكداً أن قضية اللاجئين يجب أن تُحل عبر تطبيق القرار الدولي 194، الذي يضمن حقهم في العودة أو التعويض.
مفارقة تستدعي التأمل: بينما تُجيّش دول عربية جيوشها لمنع توطين اللاجئين على أراضيها، تتهافت أخرى على التطبيع مع إسرائيل دون ضمانات تمس حقوق الفلسطينيين، وكأن "التوطين" و"التطبيع" وجهان لعملة التخلي عن القضية الأم.
الأمن الأردني فوق كل اعتبار: رسالة لمن؟
عندما قال الملك عبدالله الثاني: «مصلحة الأردن فوق كل اعتبار»، لم يكن يخصّص حديثه لواشنطن فحسب، بل كان يوجّه رسالة مبطنة إلى الحلفاء العرب أيضاً. فالدعم المالي والسياسي الموعود للأردن – في ظل الأزمات الاقتصادية الخانقة – غالباً ما يأتي مشروطاً بمساومات سياسية، مثل التخلي عن دوره كطرفٍ فاعل في القضية الفلسطينية.
المعضلة العربية: كيف تُطالب النخب العربية شعوبها بـ"التضحية" من أجل فلسطين، بينما ترفض هي تحمل تبعات الموقف الأخلاقي؟
قمة جدة: اختبار الإرادة العربية
قبل أيام من القمة العربية في جدة، يتحتم على الدول الكبرى – وعلى رأسها السعودية ومصر – أن تلتقط الإشارات الأردنية، وأن تتحول القمة من منصة خطابات إلى آلية عمل تقوم على:
1. توحيد الموقف التفاوضي: رفض أي حلول فردية أو مشاريع إعمار تدار خارج الإطار العربي.
2. ربط الإعمار بالمسار السياسي: لا إعمار دون ضمانات بإنهاء الاحتلال، وإطلاق مفاوضات جادة.
3. دعم الأردن مادياً وسياسياً: لتعزيز صموده أمام الضغوط الأمريكية-الإسرائيلية.
4. فضح المخططات الدولية: عبر حملة دبلوماسية تكشف محاولات ربط الإعمار بالتهجير.
هل يقتدي العرب بالأردن أم يكررون سيناريو التخلي؟
التاريخ العربي الحديث مليء بحالات انقسام حوّلت القضية الفلسطينية إلى ورقة تفاوضية بثمن بخس. اليوم، يعيد الأردن تقديم نموذجٍ نادرٍ للثبات، لكنه نموذجٌ قد يتحول إلى "صوت صارخ في واد" إذا لم تُترجم القمة العربية الثوابت إلى أفعال.
سيناريوهان مُحتملان:
- الأول: تتضامن الدول العربية مع الموقف الأردني، وتُطلق جبهةً عربيةً لمواجهة الضغوط الدولية، وتُحوّل إعمار غزة إلى نقطة انطلاق لاستعادة المبادرة.
- الثاني: تسود الانقسامات، وتنحاز بعض الدول إلى المشاريع الدولية مقابل وعود وهمية، ليكتشف العرب لاحقاً أنهم خسروا فلسطين بـ"بيانات جوفاء".
القدس تُنادي... فهل من مُجيب؟
الأردن، بموقفه الصلب، يُذكّر العرب بأن القضية الفلسطينية ليست "عبئاً" يجب التخلص منه، بل هي قضية وجودٍ وهوية. النخب العربية مطالبة اليوم بأن تختار: إما أن تسير في ركاب الأردن لإنقاذ ما تبقى من كرامة الأمة، أو أن تُسجل في ذاكرة التاريخ كأداةٍ لتنفيذ المخططات الاستعمارية الجديدة.
القدس لن تنتظر طويلاً... فهل يفيق العرب قبل فوات الأوان؟