ما بعد غلوب باشا: كيف أصبح الجيش مدرسة للوطنية؟

نبض البلد -
ما بعد غلوب باشا: كيف أصبح الجيش مدرسة للوطنية؟

《 بقلم الدكتور محمد طه العطيوي 》

في الأول من آذار 1956، لم يكن قرار تعريب الجيش الأردني مجرد تغيير في القيادة العسكرية، بل كان لحظة ميلاد جديدة للأردن الحديث؛ لحظة حوَّلت الجيش من أداة تنفيذٍ لأجندات خارجية إلى مدرسةٍ تخرِّج أبناء الوطن المخلصين، وتغرس فيهم قيم الانتماء والتضحية. فبعد إحالة القائد البريطاني جون غلوب "غلوب باشا" إلى التقاعد، بدأت رحلة بناء جيشٍ وطنيٍّ صُمِّم ليكون حاميًا للحدود، وحارسًا للهوية، ومُعبِّرًا عن إرادة الشعب الأردني. ورث الملك عبدالله الثاني عن والده، الملك الحسين بن طلال، إيمانًا راسخًا بأن الجيش هو العمود الفقري للهوية الأردنية، فكانت رؤيته امتدادًا لمسيرة التعريب، لكن بصيغة عصرية تواكب تحديات القرن الحادي والعشرين دون أن تفقد الجيش روحه التي تأسست عليها.

القيادة الوطنية: من التبعية إلى صناعة القرار

كانت أولى خطوات تحويل الجيش إلى "مدرسة وطنية" هي استبدال القيادة البريطانية بضباط أردنيين، حملوا على عاتقهم مهمةً مضاعفة: إثبات كفاءة الجيش، وترسيخ ثقافة الانتماء بين صفوفه. لم يكن الأمر سهلاً، فغلوب باشا ظلّ لسنوات يسيطر على مفاصل الجيش، ويعتمد على خبرة بريطانية متجذرة. لكن الملك الحسين بن طلال، الذي أدرك مبكرًا أن الاستقلال الحقيقي يبدأ بجيشٍ وطني، وضع خطةً لتدريب الضباط الأردنيين وتأهيلهم، سواء عبر البعثات العسكرية أو المناورات الداخلية.

وتابع المسيرةَ الملكُ عبدالله الثاني، الذي تربّى في كنف الجيش وخدم فيه لسنوات قبل توليه العرش، فجعل من تطوير المؤسسة العسكرية أولويةً استراتيجية. فتحت قيادته، شهد الجيش تحولًا نوعيًّا في التكنولوجيا العسكرية والتدريب، مع الحفاظ على الروح الوطنية التي أرساها والده. وأكّد الملك عبدالله دومًا أن "الجيش الأردني هو حصن الوطن وأبناؤه رجالٌ لا يعرفون المستحيل"، مُشددًا على دمج القيم الوطنية مع التميز العملي.

الجيش والشعب: علاقة تكافل تُغذي الوطنية

لم يعد الجيش بعد التعريب مؤسسةً منعزلة، بل تحوّل إلى جسرٍ بين الدولة والمواطن. فمن خلال مشاريع الخدمة الوطنية، مثل بناء المدارس في المناطق النائية، وإغاثة المنكوبين في الكوارث الطبيعية، أو حتى تنظيم الحملات الطبية، أصبح الجيش جزءًا من حياة الناس اليومية.

وفي عهد الملك عبدالله الثاني، تعززت شراكة الجيش مع المجتمع عبر مبادرات مثل "الجيش والمواطن"، التي تُعزز التلاحم في المناطق النائية. كما أطلق جلالة الملك مشاريعَ تنمويةً بالتعاون مع القوات المسلحة، مثل إنشاء المستشفيات الميدانية خلال جائحة كورونا، حيث حوّل الجيش أفراده إلى جنودٍ على خطوط مواجهة الأزمات الإنسانية، مما عمّق ثقة المواطن بأن جيشه "ابن الوطن" قبل أن يكون حاميه.

المعركة والذاكرة: صناعة رموز وطنية

أثبت الجيش الأردني بعد التعريب أنه قادرٌ على خوض المعارك المصيرية دفاعًا عن القضايا العربية والأردنية. ففي معركة الكرامة (1968)، وقف الجيش كالجبال أمام القوات الإسرائيلية، محققًا انتصارًا معنويًّا حوَّل الحدث إلى أسطورة تُروى للأجيال.

وفي العصر الحديث، واصل الجيش الأردني، تحت قيادة الملك عبدالله الثاني، كتابةَ ملاحم البطولة. ففي معارك مكافحة الإرهاب على الحدود، أو في مشاركته ضمن التحالفات الدولية لحفظ السلام، ظلّ الجيش يحمل راية الأردن عاليةً، مؤكدًا رؤية الملك عبدالله الثاني بأن "الأمن الوطني جزءٌ من الأمن الإنساني الشامل".

الثقافة العسكرية: من الانضباط إلى الإبداع

لم يقتصر دور الجيش على الحروب والمناورات، بل أسهم في بناء ثقافة وطنية متكاملة. فالمتاحف العسكرية، مثل متحف الدبابات الملكي، تحوّلت إلى أماكن تُحيي تاريخ الأردن العسكري وتُبرز دور الجيش في حماية التراث.

ولم يتوقف دعم الملك عبدالله الثاني للبُعد الثقافي عند المتاحف، بل شمل إطلاق مسابقات فنية وأدبية تُجسّد دور الجيش في الوجدان الشعبي، مثل مبادرة "قصيدة الوطن"، التي حوّلت قصائد الشعراء عن الجيش إلى لوحاتٍ مرئية تُذكّر الأجيال بأن الوطنية إرثٌ لا ينقطع.

التحديات المعاصرة: وطنية الجيش في مواجهة العولمة

اليوم، يواجه الجيش الأردني تحديات جديدة، مثل مكافحة الإرهاب، أو التصدي لمخاطر الحدود الساخنة، لكنه ظلّ متمسكًا بدوره كـ"مدرسة وطنية". ففي معسكرات تدريب قوات الدرك أو الأمن الحدودي، لا تُدرَّس فقط فنون القتال، بل أيضًا احترام حقوق الإنسان والتعامل مع الثقافات المختلفة، مما يعكس صورة الأردن المتسامح.

وفي ظل التحديات الجيوسياسية المعقدة، رسّخ الملك عبدالله الثاني مفهومًا جديدًا لـ"الجيش الذكي"، الذي يجمع بين الابتكار التكنولوجي والحفاظ على المبادئ. فتحت شعار "القدرة والاحترافية"، طوّر الأردن قدراتٍ عسكريةً في مجالات مثل الحرب الإلكترونية والذكاء الاصطناعي، دون أن تفقد المؤسسة العسكرية جوهرها الإنساني، كما يظهر في دورها البارز بإغاثة اللاجئين السوريين .

الجيش مدرسةٌ تتخرّج منها الأجيال

بعد أكثر من ستة عقود على رحيل غلوب باشا، لم يعد الجيش الأردني مجرد مؤسسة عسكرية، بل تحوّل إلى فضاءٍ تربوي يزرع في النفوس حب الأردن، ويربط الماضي بالحاضر. ففي كل مرة يُرفع فيها العلم، أو تُنشد النشيد الوطني، أو يُحكى عن بطولات الجيش، تتجدد الدروس نفسها: أن الوطنية ليست شعارات، بل أفعالٌ تُبنى بالتضحيات.

اليوم، وفي ظل قيادة الملك عبدالله الثاني، الذي يردد دائمًا أن "الجيش العربي هو عنوان الأردن وشموخه"، تتعزز مكانة الجيش كمدرسةٍ لا تُعلّم فقط فنون الحرب، بل تُخرّج أجيالًا تؤمن بأن حماية الوطن مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون مهنية. يُكرّس الجيش اليوم، برؤية ملكية ثاقبة، مفهومًا جديدًا للوطنية: وطنيةٍ تتجدد بالتطوير، وتتألق بالإنجاز.