حاتم النعيمات
يدور اليوم في الأردن حوار عميق على وقع التغيرات الدائرة في المنطقة، إذ فرضت ارتدادات حدث السابع من أكتوبر نفسها على المنطقة وعلى الخارطة السياسية الأردنية، تلك الخارطة التي تضم جماعات سياسية مرتبطة فكريًا وتنظيميًا بمشاريع ودول خارجية.
هناك جدل متصاعد حول المخاطر التي تهدد الهوية الوطنية الأردنية، أثير بفعل ارتفاع صوت اليمين الإسرائيلي والأمريكي في موضوع التهجير، إضافةً إلى شعور الكثير من الأردنيين بأن الوقت قد حان لتنفيذ شعار "الأردن أولًا” بشكل عملي وفي جميع المجالات. فقد ثبت فشل اتّباع الفكر السياسي القادم من الخارج، ولم يعد بالإمكان ترك الساحة لمن انهارت دولهم ومشاريعهم العابرة للحدود.
الهوية الوطنية الأردنية مهددة، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، ومن يدّعي خلاف ذلك إما أنه بعيد عن المشهد السياسي أو ضالع في مشروع تذويبها، ذاك المشروع الذي يخدم التوسعية الإسرائيلية. لذا، فإن مناقشة المخاطر التي تواجه الهوية الوطنية الأردنية أمر بالغ الأهمية، حتى في سياق الإصلاح السياسي والاقتصادي، إذ أن الحسابات الروتينية المعقدة لهذا الإصلاح، وربما البطء في إنجازه من قبل الدولة الأردنية، تعود في أساسها إلى المخاوف من انعكاسات المشاريع الخارجية على الهوية الوطنية والوضع الداخلي.
في المقابل، ظهرت تيارات تهاجم كل من يطالب برفض التهجير والتوطين والتجنيس، إذ خرجت بعض الأصوات التي ترى أن الحديث عن تعزيز الهوية الوطنية ضرب من ضروب العنصرية والإقليمية، رغم أن الدولة الأردنية ذاتها، وعلى أعلى المستويات، تؤكد أن هذه الهوية هي الأساس لديمومة البناء والاستقرار.
يأتي في مقدمة المهاجمين لدعاة ترسيخ الهوية الوطنية الأردنية الحركة الإسلامية، التي تبنّت نظريتها التقليدية القائمة على اعتبار الأردن جزءًا من كل، وهو طرح لم يعد عمليًا بالتجربة، فالدولة الوطنية باتت مفهومًا عميقًا، تراكمت فوقه العلاقات الدولية والقانون الدولي والتحالفات والمصالح. وعليه، لم تعد النظرة للشعوب كمجاميع بشرية تجمعها الأيديولوجيا وتفرّقها الحدود قابلة للتطبيق، بالتالي، فإن عداء هذا التيار لمفهوم الهوية الوطنية ينبع من كونه يتعارض مع أمميته التي يؤمن بها.
أما الطرف الآخر في الهجوم، فهو جمهور ما يسمى بمحور "المقاومة”، الذي سعى إلى إخضاع الرأي العام الأردني لفكرة قبول المشروع الإيراني في المنطقة بزعم أنه مشروع لتحرير فلسطين، وكأن إيران عبارة عن جمعية خيرية ستحرر فلسطين من أجلنا، ورغم أن هذا المحور نفسه أعلن عداءه للأردن، سواء عبر التحريض (خصوصًا بعد السابع من أكتوبر) أو من خلال إرسال المخدرات والعصابات عبر الحدود. وهنا تتضح حقيقة جوهرية، وهي أن هذا الجمهور (جمهور المحور) لا يريد الحديث عن الهوية الوطنية الأردنية لأنها ببساطة تفرض تحديد العدو والصديق وفقًا لمصالح الأردن.
ورغم ضجيج المشهد، فإنني متفائل بأمرين: أولهما أن الحركة الوطنية الأردنية انطلقت كقطار ولن تتوقف، وهذا يفسر الهجوم المزدوج عليها من الطرفين المذكورين أعلاه. أما الأمر الثاني، فهو أن سلوك هذين الطرفين، من حيث الإساءة للآخر وتخوينه، ليس سوى مظهر من مظاهر الأفول السياسي وفقدان التوازن.
إسرائيل هي الخطر الأكبر والرئيسي، وما أقوله هنا لا يعني التقليل من شأنها، لكن في الأردن، هناك من يدرك أن البيئة المثلى لحركة إسرائيل التهجيرية تكمن في تحويل المجتمع الأردني إلى مجتمع منزوع الهوية تتقاذفه الانتماءات المستوردة والمشاريع الخارجية، ينجرف مع كل القضايا، لكنه يهرب من قضيته الأساسية.