حاتم النعيمات
لطالما كان دور الأردن السياسي محطَّ اتهامٍ وتزوير، حيث تربَّت أجيال عديدة على تصنيف هذا البلد على أنه كيان وظيفي مصطنع يخدم مآرب الاستعمار. وما زال لهذا التصوُّر رواسب في أذهان الكثيرين، ويظهر ذلك من خلال التشكيك والاستخفاف المستمر بمواقف الدولة الأردنية في الكثير من القضايا.
اليوم أظهرت الأحداث بما لا يدع مجالًا للشك أنَّ الأردن دولة ذات سيادة وتملك قرارها ولا يمكن فرض ما يخالف مصالحها عليها. فالوقوف المتكرَّر ولعدة مرات في وجه سياسات الولايات المتحدة عبر التاريخ يثبت ذلك، قلنا لا في محطات بارزة كثيرة أهمها الوقوف ضد العراق في 1990 ورفض "صفقة القرن” في 2017 ومؤخرًا أمام مخطط تهجير الفلسطينيين من غزة، وهذا الرفض ينسحب أيضًا على التهجير من الضفة الغربية بالمناسبة.
ظهور الأردن كقوةٍ سياسيةٍ ودبلوماسيةٍ أربك تيارات سياسية تصف نفسها بالمعارضة، والتي لطالما اعتمدت على فرضية التخوين في خطابها، إذ لم تملك هذه التيارات يومًا برامجَ سياسية حقيقية أو تصوُّراتٍ لإدارة الدولة، لذلك خصَّصت جهدها كاملًا للشحن والتحشيد تحت عناوين المؤامرات والغموض. ونتيجةً لذلك، نشأ لدى الكثير من أتباعهم وعي مُتصخّر لا يقتنع بأيِّ فعل إيجابي تقوم به الدولة الأردنية.
بعد أن أعلن ترامب شخصيًّا أن خطته لتهجير أهل غزة أصبحت مجرد اقتراح، وأنه لن يفرضها لا على الأردن ولا على مصر، وبعد أن أشار جلالة الملك إلى أن هناك من يتلقى الأوامر من الخارج، حاولت بعض التيارات ركوب الموجة والسعي لإخراج نفسها من دائرة الاتهام، فدعت مباشرةً إلى فعاليات وتظاهرات ادّعت أنها لدعم الموقف الأردني.
المُلفت في المشهد أن هذه التيارات السياسية فشلت في إقناع غالبية كوادرها بالمشاركة في الفعالية، رغم أن عنوانها كان رفض التهجير!! فكانت أعداد الحضور في فعالياتها ليست كما توقعت خلافًا لما جرت عليه العادة في الفعاليات التي أُقيمت سابقًا للتشكيك في مواقف الدولة الأردنية. وهذا يدل على وجود اختلالٍ واضحٍ داخل هذه التيارات، حيث عجزت عن إقناع الكثير من كوادرها بحقيقة أن الأردن دولةٌ داعمةٌ للقضية الفلسطينية وليست متآمرة. وهذا أمرٌ متوقع، لأن الفكرة اللامة لهذه التنظيمات والتيارات لا تعتد بالأردن وتراه مجرد جزء من مشاريعها العابرة للحدود.
ببساطة، لو كان الهدف فعلًا نصرة غزة والقضية الفلسطينية لدى غالبية الجموع -التي احتكرت الشارع على امتداد سنةٍ ونصف- لدعمت موقف الدولة الأردنية. فالتهجير هو الخطر الأعظم على القضية الفلسطينية، ورفضه هو الأساس الأهم لدعم النضال الفلسطيني، ولا يوجد أي شيءٍ آخر يوازي استراتيجية تثبيت الفلسطينيين على أرضهم في مواجهة الاحتلال. لذلك، فإن دعم ما قامت به الدولة الأردنية بقيادة جلالة الملك يمكن اعتباره المقياس الأصدق لعلاقة أي فرد أو تنظيم بالقضية الفلسطينية، وأن محاولة تعطيله يمكن اعتبارها بمثابة تخادم مع الاحتلال ذاته.
بناءً على ذلك، فمن حقنا أن نستنتج أن الكثير من التظاهرات كانت تُقام لغاياتٍ تنظيميةٍ تخص دعم حماس أو استجابةً لأوامرها التي كانت تُطلق لتحريك الشارع الأردني، ولم تكن لأجل الشعب الفلسطيني.
المرجو من الأغلبية المحايدة أن تقرأ بتمعّن سلوك هذه التيارات؛ فهذه التيارات لم تستطع جمع الأعداد المعهودة تحت عنوان دعم الموقف الأردني النبيل، رغم أنها كانت تنظم مظاهراتٍ حاشدةً تحت عنوان التشكيك بالموقف الأردني. لذا، الأجدى بنا اليوم أن نكاشف هذه التيارات بشكل مباشر دون مواربة، وأن يتوقف الكثير منا عن منحها الثقة على بياض عند كل انتخابات.