نبض البلد - خلدون خالد الشقران
تخيل أن العالم كله يشاهد خبرًا عاجلًا، يتفاعل معه، يبني عليه مواقفه، ثم بعد أيام يُكتشف أنه كان خاطئًا! ماذا يحدث حين يصبح الإعلام جزءًا من المشكلة بدل أن يكون وسيلة للحقيقة؟
في عالم يتسابق فيه الإعلام لنشر الخبر قبل التحقق من دقته، تتحول المعلومة إلى سلاح ذي حدين؛ إما أن تكون أداة توعية ونقلٍ للحقائق، أو تصبح وسيلة تضليل تزرع الفوضى وتخدم أجندات خفية. وبين العاجل المضلل الذي نشرته "رويترز” في تغطيتها لأحداث غزة، وقضية التهجير القسري الذي يهدد الهويات والأوطان، نجد رابطًا مشتركًا بينهما: الإعلام، بسلطته التي قد تبني أو تهدم.
في زمن السرعة، باتت وكالات الأنباء تتسابق لنقل الأخبار قبل التحقق من صحتها، متناسيةً مسؤوليتها تجاه الرأي العام. المثال الأبرز هو خطأ "رويترز” في تغطيتها للعدوان على غزة، حيث نشرت خبرًا مضللًا أثار جدلًا واسعًا قبل أن تعترف لاحقًا بالخطأ، لكن بعد أن أدى هذا الخبر دوره في تشكيل رأي عام مستند إلى معلومات غير دقيقة. لكن الخطأ لم يقتصر على الخبر، بل امتد إلى تأثيره على القضايا الإنسانية الكبرى، مثل قضية التهجير القسري.
ما يعزز خطورة هذا النوع من التضليل هو قدرته على التأثير في قضايا إنسانية حساسة، مثل التهجير القسري. الإعلام، في بعض الحالات، يمكن أن يصبح أداة لتبرير أو تجاهل هذه القضايا. ففي حالات النزاعات، كثيرًا ما نرى الإعلام يروج لسرديات تؤكد على "الضرورة” الاقتصادية أو "الأمنية” التي تبرر عمليات التهجير، دون إظهار الآثار الإنسانية المدمرة لهذه السياسات. على سبيل المثال، خلال العديد من الأزمات السياسية في الشرق الأوسط، مثل تهجير الفلسطينيين في عام 1948 أو عمليات التهجير القسري في سوريا والعراق، ساهم الإعلام في تبرير هذه العمليات أو تحريفها من خلال التركيز على جوانب سياسية وأمنية، متجاهلًا المعاناة الإنسانية لشعوب بأكملها.
لكن الأخطر من ذلك، هو كيف يتم استخدام الإعلام لتبرير هذه الجرائم أو التلاعب بالسرديات حولها، فتصبح الضحية متهمة، ويصبح الجلاد هو صاحب الحق في "إعادة ترتيب” المشهد. الإعلام، في هذه الحالة، يصبح جزءًا من العملية السياسية التي تسعى إلى إعادة تشكيل الواقع بما يخدم أجندات معينة.
إن التهجير لا يكون مجرد عملية نقل سكان، بل هو تدميرٌ للموروث الثقافي والتاريخي، وطمسٌ للهوية الوطنية. وهنا يأتي دور الإعلام، فإما أن يكون شاهدًا أمينًا ينقل معاناة المهجَّرين، أو يصبح متواطئًا بالصمت أو التغطية المنحازة التي تبرر هذه الجريمة.
القاسم المشترك بين الخطأ الصحفي الذي ارتكبته "رويترز” وبين قضية التهجير هو استغلال الإعلام كأداة تأثير، سواء عبر نشر معلومات مغلوطة تخدم أجندات معينة، أو تجاهل قضايا حقوقية كبرى. في كلتا الحالتين، يسهم الإعلام في تشكيل الوعي العام بطريقة قد تضر بالقضية الإنسانية أو الوطنية.
لكن السؤال الأهم: هل الإعلام اليوم يعبر عن الحقيقة، أم أنه يتحول إلى جزء من معركة السيطرة على العقول وتشكيل الرأي العام؟ في عصر العناوين العاجلة التي تؤثر على مسار الشعوب، يتعين علينا أن نتساءل: هل نحن مجرد متلقين سلبيين، أم أننا نملك القدرة على كشف الحقيقة وراء السرديات الإعلامية؟
الإعلام سلاح خطير، وإذا لم يكن في يد ضمير مهني، فإنه قد يصبح وسيلة لتبرير الجرائم وصناعة الأكاذيب، والضحية الأولى دائمًا هي الحقيقة. اليوم، نحن بحاجة إلى أكثر من مجرد تصحيح أخطاء إعلامية؛ نحن بحاجة إلى بناء وعي مجتمعي قادر على التمييز بين الخبر الصحيح والموجه. فقط من خلال الوعي النقدي والتحقق المستمر من مصادر الأخبار يمكننا ضمان أن الإعلام يعود إلى دوره الحقيقي: نقل الحقيقة، وتعزيز الشفافية، والدفاع عن حقوق الإنسان.